ترتفع وتيرة عمليات تنظيم داعش يوماً بعد يوم في ظل انشغال العالم بالحرب على غزة، فسياسة التنظيم تقوم على استغلال الأزمات، وتعدّ البادية السورية مسرحاً لعمليات التنظيم الدقيقة والخاطفة ضد ميليشيات أسد وإيران، آخرُ تلك العمليات هجوم مفاجئ شنّه عناصر التنظيم على موقع لميليشيا أسد في بادية الرصافة جنوب الرقة، أسفر عن مقتل العشرات.
عمليات التنظيم تهدف لمرحلة استنزافية قصوى ضدّ ميليشيا أسد ووكلاء إيران في البادية والاقتراب من أماكن تمركزهم، وهو ما يعمل عليه منذ انهياره في آخر معاقله الباغوز بريف دير الزور، إلا أن بوصلة التنظيم وخلاياه إلى الآن تعدّ غير مفهومة إلى حدّ بعيد، فهجماته ضدّ جميع الأطراف بما في ذلك ترهيب السكان المحليين، بسبب وجود فروع ومراجع كثيرة تحرّك التنظيم، فأجندة العمليات ضد ميليشيا أسد تختلف عن أجندة العمليات ضد ميليشيا قسد، وهلمّ جرّاً، إضافة إلى تحرّك عناصر التنظيم برشاقة داخل بادية تمتدّ على نصف مساحة سوريا، رغم وجود المقاتلات الأمريكية والروسية في السماء السورية، ناهيك عن مسيّرات المراقبة والأقمار الصناعية.
وحسب المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، فإن هناك الكثير من الشكوك حول تساهل الولايات المتحدة مع انتشار تنظيم داعش في البادية السورية، إمّا بغضّ النظر عن نشاطهم، أو التعامل مع التنظيم كورقة سياسية في المنطقة وتبرير استمرار وجود القوات الأمريكية هناك.
مكاسب الدول من وجود داعش
لعل وجود التنظيم ونشاطه في العمليات الخاطفة بين الحين والآخر هو أكثر ما يفيد ميليشيا أسد، من حيث إعادة توجيه الأنظار نحو التنظيم المتطرّف، وطيّ صفحة التسوية السياسية العربية المُطالب بها أسد، وما تفرضه من رواية حكم متأزّم ومعارضة معترف بها، هذا غير توجيه أنظار الشارع المحلي الذي يعاني تدهوراً معيشياً نحو ما يشكّله التنظيم من هواجس مرعبة لدى الحاضنة الشعبية.
أما بالنسبة لإيران فإن وجود التنظيم هو مبرّر لانتشار ميليشياتها في البادية، رغم ما يعتري هذا الانتشار الكبير من إشارات استفهام حول تحرّك عناصر التنظيم في البادية الممتلئة بنقاط تلك الميليشيات.
في حين إن الاستفادة الكبرى هي لميليشيات قسد وحليفها الأمريكي، فميليشيا قسد ترى بوجود داعش فرصة متجددة لتقديم نفسها رأس حربة في المنطقة ضد الإرهاب، ومنع القوات الأمريكية من الانسحاب من المنطقة، إضافة لتعزيز السردية الكردية الرابطة للحراك التركي ضدهم بحراك داعش.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فترى في آبار النفط سبباً لاستمرار وجودها، على عكس المنافس الروسي الراغب في خلط الأوراق وإرباك حسابات الأمريكيين ولا سيما بعد انشغالها بالحرب الأوكرانية.
يلخّص "نوار شعبان"، خبير في الشؤون الأمنية والعسكرية بمركز عمران للدراسات، مشهد استثمار الأطراف الدولية لتنظيم داعش بالقول: "إن المشاريع العابرة للحدود هي مفتاح تدخّل دولي أعمق في سياسات الدول، وتعزيز نفوذ أوسع وتحقيق مكاسب إستراتيجية على الصعيد الأمني والمصالح المحلية"، مشيراً إلى أنه رغم وجود نوع من التناغم الدولي مع إيران لكن بمرحلة من المراحل -وعلى سبيل المثال- يمكن أن تصبح الميليشيات الإيرانية بالمنظور الدولي مثل داعش.
وحسب حديث شعبان لأورينت نت، فإن أغلب الدول الإقليمية لديها عناصر منتمية للتنظيم منهم ما هو موجود ضمن سجون قسد أو مخيمات الاحتجاز أو سجون التحالف ومنهم ما زال يعمل كخلايا نائمة وهؤلاء بالذات من الصعب جداً التعامل معها بسبب عدم التكهن بطريقة عملهم واستهدافاتهم، وبالتالي فوجود داعش مهمٌ باعتباره الحاضن في بقعة جغرافية معينة لهؤلاء الأفراد الذين يشكلون خطراً على أمن الدول القومي.
سرّ النشاط ومنهجية الاستقطاب
تغيب الإرادة الدولية الحقيقية للقضاء على فلول تنظيم داعش، فمناطق البادية إما خالية من أي قوة عسكرية محلية أو مشغولة من قبل ميليشيا أسد وحلفائها مثل روسيا وإيران، وهذه القوات تسعى لتأمين وجودها ومصالحها الاقتصادية على الطرقات الرئيسية المؤدية إلى الحواضر الأساسية مثل مدن دير الزور وحمص ودمشق، ولا تبدو مكافحة التنظيم من أولوياتها على المدى المنظور.
يخوض التنظيم حرب استنزاف ومباغتة أو حرب عصابات ضمن إستراتيجية "الذئاب المنفردة" والتي تفضي لعمليات دموية وذات أثر تحفيزي ودعائي، ملتزمة بتكتيكات حرب النكاية أو المناكفة، مبتعداً عن أسلوب الحروب المعتمدة على السيطرة المكانية والزمنية، وهي حرب تناسب ظروفه الحالية، وأهدافه في التحكم بطرق البادية الرئيسة الطويلة، مستفيداً من انتشاره في البادية السورية بين حمص وحماة والرقة وتقسيمات عناصره ضمن مناطق أثريا وخناصر وسلمية والرصافة وتدمر والطبقة.
ويضمن تقسيم عناصر التنظيم على تلك المناطق الإحاطة بعمليات نقل الإمدادات النفطية والعسكرية، وخطوط نقل الثروات المعدنية ولا سيما الفوسفات، وهو ما تحاول جميع الأطراف استثماره من التنظيم عبر استخدام هذه العناصر في إطار حرب وكالة ناجع، تعتمد على تكلفة صفرية وقادرة على تنفيذ مهمات خاصة لتحقيق مصالح اقتصادية، فضلاً عن قدرتها على إشاعة الفوضى ومنع الاستقرار، وخلق مساحات أوسع لنفوذ كل طرف.
تشير التقديرات أن داعش ما زال يمتلك خلايا نائمة وقواعد ومعسكرات تدريب في مدن حمص وحماة والرقة ودير الزور والتي تعمل بسرية وحذر، ومن المرجح أن تصبح الحدود العراقية السورية معرّضة للخطر بشكل كبير مستقبلاً.
الباحث في الحركات الجهادية، "رائد الحامد"، يرى أن تنظيم داعش اعتمد منذ خسارة آخر معاقله الحضرية في بلدة الباغوز بريف در الزور، إستراتيجية تعزيز عوامل قوته وإعادة بناء قدراته البشرية والمالية والقتالية، واعتماد العمل بمجموعات صغيرة متنقلة لتجنب الاستهداف من مدفعية وصواريخ وطيران جميع الأطراف.
ويضيف الحامد في حديثه لأورينت نت، أن التنظيم لجأ في حالات نادرة إلى تكتيكات مغايرة للمجموعات المتنقلة حسب طبيعة النشاط التي تتطلب أعداداً كبيرة على غرار الهجوم على سجن الصناعة في الحسكة في يناير 2022، والهجوم مؤخراً على بلدة السخنة في بادية الرصافة، حيث بدا واضحاً استخدام التنظيم أعداداً بالعشرات قد تتراوح ما بين 60 و80 مقاتل.
ويحاول التنظيم وفق منهجيته اعتماد سياسات خاصة لزيادة الإقبال على التجنيد، وذلك عبر تنفيذ عمليات توصف بأنها عمليات نوعية بين فترة وأخرى.
يؤكد الحامد أن هذه المنهجية تعزّز من صورة التنظيم لدى الشباب والفتيان ولدى فئات تعتقد أنها تعيش تحت وطأة الظلم والتهميش، والهدف من ذلك زيادة الإقبال على التجنيد الذي يعدّ من بين أهم مقومات استمرار التنظيم ووجوده، ناهيك عن أن التنظيم بحاجة دائماً إلى التذكير بأنه لا يزال موجوداً وأنه لا يزال قادراً على النكاية بالأعداء وثبات قدراته على الأقل أمام عناصره ومؤيديه والمتعاطفين معه وأعدائه وخصومه.
التعليقات (2)