أنا من غزّتين.. الكوميديا السوداء عند أدباء غزة وروائييها

أنا من غزّتين.. الكوميديا السوداء عند أدباء غزة وروائييها

جمعني العملُ في إحدى مدارس الإمارات، في أقصى الشمال على الحدود العُمانية، بعدد من الزملاء، باختصاصاتهم الكثيرة، وشخصياتهم ودولهم المتنوّعة، ومن هؤلاء الزملاء مدرّس للفنون من غزّة، دائم النكتة، وحاضر البديهة، وكأن أهوال ما مرّت به غزة من مآسٍ، وحصار وقهر زادته إيماناً، ولم تنل من عزيمته.


كان زميلنا الغزّاوي مدرس الفنون، يتحايل على الألم، ووضع أهل غزة السيّئ بالسخرية، والنكتة، فإذا سأله أحد الأشخاص يوماً: هل أنت من غزّة؟ كان يجيب: أنا من غزّتين! طبعاً مع ابتسامة تعلو وجهه الوضّاء.
ربما يكون زميلنا الغزّاوي صورة عن أهل غزة، وما يتميزون به من طرافة، وحبّ للحياة، فلم تزدهم ظروفهم السيئة، وإجرام ومجازر الاحتلال الإسرائيلي، إلا قوة وصلابة، ويبدو أنّ لأهل غزّة من اسم مدينتهم ومعناه نصيباً، فأحد معاني غزة القوّة والمنعة، وأهل غزة، كشعب فلسطين عامة، هم شعب الجبّارين حقاً، وهم يستحقّون بصبرهم الأسطوري، وحبهم للحياة هذا الاسم.


وهذا ما عبّر عنه الشاعر الراحل محمود درويش ذات يوم، في قصيدة يقول فيها:

وَنَحْنُ نُحِبُّ الحَيَاةَ إذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ


وَنَرْقُصُ بَيْنَ شَهِيدْينِ نَرْفَعُ مِئْذَنَةً لِلْبَنَفْسَجِ بَيْنَهُمَا أَوْ نَخِيلاَ


نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ


وَنَسْرِقُ مِنْ دُودَةِ القَزِّ خَيْطاً لِنَبْنِي سَمَاءً لَنَا وَنُسَيِّجَ هَذَا الرَّحِيلاَ


وَنَفْتَحُ بَابَ الحَدِيقَةِ كَيْ يَخْرُجَ اليَاسَمِينُ إِلَى الطُّرُقَاتِ نَهَاراً جَمِيلاَ


نُحِبُّ الحَيَاةَ إِذَا مَا اسْتَطَعْنَا إِلَيْهَا سَبِيلاَ


يُعتبر الروائي أميل حبيبي رائداً للأدب الساخر في فلسطين، ويتجلّى ذلك في أعماله الروائيّة: "سداسيّة الأيّام الستّة"، و "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، ومسرحية "لكع ابن لكع".
أميل حبيبي يقول في حوار معه، حول أسلوبه الساخر:


"إن السخرية هي الأسلوب الوحيد للتنفيس عن شعبي الذي يئنّ، تحت وطأة الاحتلال والقهر. ويحلو لي أحياناً أن أشبّه السخرية ب "الشاري" أي بمانع الصواعق الذي يمتصّ الصاعقة، فيحمي البيت وأهل البيت من الاحتراق والموت".


كثرٌ هم الكتاب الساخرون في قطاع غزة، والذين اعتمدوا السخرية سلاحاً في وجه الفساد، والاحتلال الإسرائيلي، ومن هؤلاء الأدباء الكاتب أكرم الصوراني الذي أصدر كتابه الأوّل "وطن خارج التغطية" في رام الله، وله كتاب ثانٍ بعنوان "وطن نص كم"، وعن سبب تسميته بهذا العنوان قال: "كل شيء في بلدنا نُص كم، الكهرباء نص كُم، الماء نُص كُم، الراتب نُص كُم، والحياة نُص كُم، لكن كلي أمل أن تأتي قيادة حكيمة للشعب الفلسطيني، تكمل نصف الكُم الثاني".


 يقول الصوراني في إحدى مواده الساخرة: "الشعب يريد مثانة كبيرة بحجم غزّة، ورام الله تكفيه، للتبوّل على الأوضاع والإحباط، وطاولة الحوار، والمياه الكالحة، والوجوه الكالحة، والشرعيات الكاذبة، ونشرة الأخبار وغلاء الأسعار".
وكتب أكرم الصوراني كذلك عن صفقة القرن ساخراً:


"راح يجي يوم نصحى من النوم، رح يجي يوم، وتصحى الأمة وتحكي شالوم، راح يجي يوم بوكرتا ماشلومخا يحكولك شي أحكيلهم حا، تعيش باللاء وتموت بالآه، والغنمات ياكلوها الديب، والمحيط يزمر بيب، والخليج يزمر بيب، اركب يلا على تل أبيب، ومن مكة نركب على عكا، ومن المدينة على بيت حنينا، ومن نجران على عسقلان، جية وروحة بنفس اليوم، ونستورد سبحة من الصين، وجلابية من بكين، والقطار يزمر توت، خيبر خيبر يا يهود، هاتوا الطبلة، وهاتوا العود، راح نصحى يوم من النوم، وتصحى الأمة وتحكي شالوم".


ومن الكتاب الذين برزوا في الكوميديا السوداء الكاتب توفيق الحاج الذي تحدّث عن الكتابة الساخرة قائلاً:


"الكتابة الساخرة لا تعني أن نكون إسماعيل ياسين في مستشفى غزة، أو عادل إمام في مدرسة المنقسمين، بل تعني أن نرسم واقع الناس المضحك المبكي، وتعبر عمّا يدور في صدورهم، بمفارقة كاريكاتورية صادقة موجعة، دون إطالة، أو إسفاف، فلا تعبيرات مبتذلة، ولا نكات ممجوجة موحية بما يخدش، وهنا يتجلّى السهل الممتنع".


وعن سبب اعتماد السخرية يقول توفيق الحاج: "لا أستطيع أن أصمت، لأن كلّ شيء في غزّة على حافة الهاوية يدفعني للسخرية والكتابة".


في مادة ساخرة لتوفيق الحاج بعنوان "رئيس على خازوق" يسخر فيها، ويقول: "أرثي لحال عباس الذي لا أحبه، ولكني أثق به، وأحترم صدقه، ولو لطم الزلمة، وقدّ الثوب، ثم رقص في ميدان المنارة عارياً لا لوم عليه، مع أنه هو اللي جابه لنفسه، استهوى خازوق الرئاسة، وخلافة أبو عمار... عمل كما عمل جحا، مع ابنه والحمار، ومع ذلك لم يرضِ عدواً، ولا حبيباً".


وبرز في الكتابة الساخرة أيضاً الكاتب حمزة البحيصي في مدونة "مقلوبة"، والذي لم يُعرَف اسمه، حتى غادر غزة، وسكن في لندن، يقول في أحد منشوراته: "اعتاد الفلسطيني أن يقف لثلاثة: النشيد الوطني، والصرّاف الآلي، وانطلاقة الحركة".


لا شك أن الأدب الساخر كان معبراً عن الشعب الفلسطيني، وعن الاحتلال الإسرائيلي، وحتى عن الفساد، والخلافات الفصائلية، وربما استفاد الكتّاب من وسائل التواصل الاجتماعي، للوصول إلى شريحة أكبر من الناس، حتى إن بعض الساخرين، بعد شهرته في مواقع التواصل عرضت عليه دور النشر جمع ما قدّمه، ليصدر ضمن منشوراتها، وذلك لما للكتابة الساخرة من محبين يتلقونها بلهفة وحب.

التعليقات (3)

    3

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات