منذ العام 2014 دخلت القضية السورية في نفق الاحتمالات والتجاذبات والتوزع على أساس المصالح حين اضطرت الأطراف الدولية لإلغاء الوجود على الأرض السورية بالوكالة وتدخلت باسمها وكيانها الصريح بعد توفر المسوغ المنطقي (إرهاب داعش).
نفق طويل ومظلم ومملوء بالمفاجآت التي كانت وما زالت تهز الشارع السوري وترتد على الواقع السياسي العالمي، ونحن هنا لا نتحدث عن تحول سوريا إلى رقعة شطرنج تشهد تنافساً دولياً؛ لأن هذا الأمر انتهى مع دخول القوات الأجنبية إلى سوريا وفق التوزع المعروف والذي ما زال مستمراً حتى الآن.
ونحن أيضاً لسنا نستعرض المرحلة تاريخياً؛ فتاريخ سوريا منذ آذار 2011 منقسم بحسب رواية كل طرف وبحسب رؤية كل طرف وبحسب مخطط كل طرف؛ عدا انقساماته القديمة والمركبة منذ سبعينات القرن الماضي.
نحن نقرأ في كف سوريا مستقبلها وفق المعطيات الجديدة - الصادمة عند البعض والمتوقعة عند البعض الآخر – على مبدأ ((كذب المنجمون ولو صدقوا)).
بعد الوساطة الروسية الأخيرة في تغيير شكل التقارب التركي السوري الذي لم ينقطع يوماً؛ حيث كان قائماً منذ اللحظة الأولى على المستوى الاستخباراتي بحسب الرواية الرسمية؛ بدأت مرحلة جديدة سرّعت عجلة هذا التقارب وستعمل على تسريعه أكثر في قادم الأيام، حيث امتد التقارب ليشمل كلاً من وزارتي الدفاع والخارجية إضافة إلى جهاز المخابرات في كلا البلدين، وحين يوصف اللقاء بالإيجابي فهذا يحمل احتمالات أكثر تعقيداً مما سبق.
أكثر ما اتفق عليه الطرفان هو إنهاء وجود "قوات سوريا الديمقراطية"، والذي لن ترضى به أمريكا وستعمل على تغيير شكل هذا الوجود - كما جرت العادة - على طريقة المختار الذي كان يغير لباسه في مسرحية "ضيعة تشرين" المحفورة في وجدان كل السوريين.
ثم تصريح تركي مفاده أنّ تركيا لا تمانع تسليم مناطق وجودها في الشمال السوري للنظام بوصفها أراضي سورية، شريطة ضمان استمرار الأمان والإعمار وتهيئة الظروف لعودة اللاجئين بعد إجراء مصالحة بين المعارضة والنظام الذي لم يلتزم يوماً باتفاق رسمي مع دولة لها كيانها فكيف سيلتزم باتفاق مع مؤسسة كان من أهدافها يوماً ( إسقاط النظام في سوريا )، والضامن لتحقيق كل هذا روسيا التي لم توفر طريقة قتل أو تدمير لتضمن مصالحها في سوريا إلا واستخدمتها دون إعطاء أي أهمية للنتائج أو الكوارث التي نتجت عن ذلك، وأهم تلك النتائج ارتفاع عدد اللاجئين الذين دخلوا إلى تركيا بعد بدء القصف الروسي في سوريا؛ بمعنى أنّ الضامن هو سبب رئيسي في مشكلة تركيا الأولى داخلياً اليوم؛ والتي تتمثل بقضية اللاجئين السوريين الذين تحولوا إلى مشروع انتخابي عند المعارضة في تركيا.
لعل كف سوريا يحكي لنا أنّ السيناريو اللبناني بعد الحرب الأهلية هو الأقرب ليكون السيناريو السوري مع اختلاف في بعض التفاصيل لتتناسب مع طبيعة ما يجري الآن في سوريا وما حولها وما يرتبط بوضعها عامةً.
في لبنان أصبح الحكم على أساس ديني طائفي، أما في سوريا فربما يكون أوسع من ذلك ليكون على أساس فكري (تيارات) بحسب قرب كل تيار من جهة دولية ما، وسيحتفظ كل طرف بسلاح سري غير الذي سيتم تسليمه بشكل علني أو إعلامي؛ كالذي يخبئ قرشه الأبيض ليومه الأسود في حال احتاج إليه لاحقاً.
ستعرف سوريا ما يُسمى بالتعددية الحزبية هذه المرة دون أن تكون بشكل صوري؛ لكن ستكون ضمن حدود متفق عليها دولياً مع هوامش بسيطة لا يتجاوزها أي حزب.
ستتوزّع كراسي البرلمان بحسب النفوذ على الأرض، وبحسب القاعدة الجماهيرية لكل تيار، وسيتم تشكيل تحالفات على غرار الدول المجاورة لضمان تمرير القرارات المطلوبة تحت مظلة الأغلبية.
سيتم الاتفاق على طيّ العديد من الملفات كملف المعتقلين والمفقودين، وسيتم بالمقابل تشكيل حركات ومؤسسات تعمل من أجل هذه الملفات المطوية ليس لمعرفة الحقيقة؛ بل لإلهاء الأهالي وإسكات أصواتهم المطالبة بمعرفة مصير ذويهم، وسيكون لهذه المؤسسات دعم خارجي سخي لإنجاح دورها المسرحي.
سنرى في سوريا مؤسسات اقتصادية جديدة مستقلة تشمل البنوك والمصانع وبعض مرافق السياحة والتعليم الخاص والطب والاتصالات ومؤسسات المجتمع المدني؛ خاصة ما يهتم بشؤون المرأة والثقافة والفن، دون رقابة مباشرة أو محاصصة من المحكومة السورية كما في السابق؛ لكن بعلمها الذي يفرض عليها تسهيل عمل هذه المؤسسات.
سيتم تقسيم مؤسسة الجيش إلى ولاءات متعددة لتحييدها تماماً.
سينتشر سيناريو الاغتيالات بين الشخصيات الرسمية وربما غير الرسمية لتصفية الحسابات القديمة العالقة، وستُلصق هذه العمليات دائماً بظهر الإرهاب الذي يضمن بقاؤه بقاء التدخل الدولي في سوريا.
سيتغير وجه المؤسسة الإعلامية لتخرج عن السيطرة التامة من قبل الحكومة وتترك فكرة التوجيه السياسي لصالح الحزب الواحد، وستنتشر المؤسسات الإعلامية المرتبطة بالتيارات المتنفذة في الحكم السوري الجديد.
ربما يتحول منصب الرئاسة في سوريا إلى مجرد ختم ليصادق على القرارات التي سيكون فيها اتفاق وتوافق دولي؛ على الأقل في المرحلة الأولى من خطة إعادة الاستقرار إلى سوريا والذي سيمتد إلى عدة سنوات لأن الوجوه والأسماء ستتغير بموجب التجربة من قبل الجهات الدولية المتدخلة في سوريا حتى تستقر على وجوه وأسماء لا تناقش كثيراً فيما يتم إملاؤه عليها.
سيظهر شكل سياسي جديد قديم يوازي التيارات الفكرية يتمثل بالعائلة؛ حيث ستنحصر بعض الأنشطة السياسية والاقتصادية في بعض الأُسر التي يتم التوافق عليها دولياً؛ والتي ستكون من طوائف مختلفة.
سيتم تخصيص ميزانية ضخمة للإنتاج الإعلامي والفني السوري وربما المشترك لتمرير الرسائل المرادة للمرحلة القادمة وضمان توجيه الرأي العام السوري والدولي كما يجب وبالشكل الذي يضمن تنفيذ كل ما سبق.
أخيراً سيتم إغراق الدولة بالديون الخارجية لضمان حصول واستمرار كل ما سبق.
ربما يرى البعض هذه القراءة تحمل بين أسطرها مبالغةً، وربما يراها البعض منطقية، وربما يقول قائل: إنها قراءة مشوهة، لا أدري.. لعل كل ذلك صحيح، وربما يكون بسبب التشوه الذي باتت تحمله الكف السورية.
التعليقات (0)