يُعد الوجود الإيراني في سوريا أكثر ما يؤرق الأطراف الإقليمية التي تدير النزاع في سوريا على الصعيد العسكري، وأهم ما يُقلق التركيبة السكانية لا سيما أن الميليشيات الإيرانية أو الموالية لها هي الأكثر عددًا وتوزعًا في سوريا، إلى جانب احتكارها أحياء وبلدات ومناطق كاملة بأشكال ومستويات مختلفة.
ولم تكن عبثيةً دعوة المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، دمشق إلى كبح أنشطة الميليشيات المدعومة من إيران في سوريا، فقد قالت غرينفيلد: إن "الجماعات الإرهابية التي ينعم بعضها بدعم النظام السوري وإيران، تهدد بتوسيع الصراع إلى ما هو أبعد من غزة، وذلك باستخدام الأراضي السورية للتخطيط وشن هجمات ضد إسرائيل، وكذلك ضد القوات الأمريكية".
وأضافت: "لقد سمح النظام السوري لإيران والجماعات الإرهابية، بما فيها حزب الله، باستخدام مطاراته الدولية لأغراض عسكرية.. ويُعرِّض النظام من خلال القيام بذلك المسافرين المدنيين في تلك المطارات للخطر، وحريّ به أن يتوقف عن لعب دور الضحية".
حديث المندوبة الأمريكية دفع أورينت للوقوف على مساعي ميليشيا أسد لاستجلاب الميليشيات الإيرانية منذ اندلاع الثورة السورية، وكيف تحوّلت هذه الميليشيات لمتحكم أساسي بمنافذ قرار النظام، وكيف ساهم أسد بتسهيل دخول أسر الميليشيات لترسيخ نموذج التغيير الديمغرافي، بعد ترحيل المدن والقرى السنية الثائرة، وكيف تحوّلت هذه الميليشيات الولائية خلال سنوات الثورة لذراع يُعتمد عليها وكنموذج أشبه بشركات أمنية تشبه فاغنر الروسية وبلاك ووتر الأمريكية، ولكن بزخم قتل طائفي ممنهج.
ميليشيات متعددة المهام
وُسِمت الميليشيات الإيرانية بفظائع في سوريا ضد المكوّن السنّي الأكبر، إذ تكفل أسد بضرب ثورة السوريين عبر استيراد هذه الميليشيات لإكمال مهمته خارج القانون، بحجة حماية الأماكن المقدسة للشيعة، وهو ما تجسد في تحقيق حلمها بتشكيل الهلال الشيعي الممتد من طهران إلى المتوسط، ونشر التشيّع داخل سوريا والذي يسير بالتوازي مع النشاط العسكري في كل بقعة تستولي عليها الميليشيات.
في حديثه لأورينت نت، يرى الباحث المختص في الشؤون الإيرانية، مصطفى النعيمي، أن هذه الميليشيات بدأت عمليًا بوسائل ناعمة في البداية من خلال عمليات التثقيف والتدريس والاستيلاء على مناهج وزارة التربية والتعليم وصولًا إلى إرسال البعثات الدينية إلى طهران وتعليم هؤلاء المُبتعثين الحقد الطائفي البغيض، وبالتالي أصبح الشعب السوري برُمّته فريسة لهذه المشاريع الولائية عمومًا وخاصة الأمنية.
ويمكن اعتبار تحوّل هذه الميليشيات إلى مسميات ميدانية تعمل في جبهات متعددة لمحاربة الشعب السوري، نتاجاً لسلوك طويل الأمد بدأ بنشر الفكر ومن ثم دور العبادة أو ما يطلق عليه الحسينيات والتي كان يغدق عليها الأموال، ومن ثم يقوم بتجييش مرتاديها لتحقيق أهداف إستراتيجية في التموضع في مصدات عسكرية وأمنية متقدمة جدًا في منطقة الشرق الأوسط، ولتكون منطلقًا له باتجاه باقي الدول العربية، ولتعيث فيها خرابًا من خلال إرسال المخدرات واستنزاف الشعب وإخراجه خارج نطاق الوعي بالمطلق، وصولًا إلى الهيمنة العسكرية المطلقة على تلك الدول وفق العقيدة الولائية التي تحكم طهران.
و"أصبحت تلك المليشيات مرتزقة وأقرب ما تكون إلى شركات أمنية تقوم بتجنيد وتجييش أبناء سوريا للانضمام إلى تلك الكيانات، ومن ثم توظيفهم في جبهات متعددة حتى خارج نطاق الجغرافيا السورية، وبالتالي أصبحت حالة تلك المسميات مشابهة تمامًا للشركات الأمنية كما هو معهود في ميليشيا فاغنر وبلاك ووتر وغيرها من الميليشيات التي تقدم خدمات أمنية للدول خارج نطاق الجغرافيا التي تنتمي إليها"، حسب النعيمي.
ويشترك الباحث في الشأن الإيراني عمار جلو، مع النعيمي، في أن الميليشيات الإيرانية الولائية تحمي نظام أسد بقرار إيراني، فولائها للولي الفقيه في قم، وليست معنية ببشار أو مؤتمرة بأمره، إلا بما تمليه عليها الفتاوى والقرارات الإيرانية، وهو ما يجعلها كشركات أمنية تجاوزت ما تفعله الجيوش النظامية وما تتقيد به ضمن قوانين الحروب.
استجلاب الميليشيات مستمر
منذ بداية الثورة السورية حتى هذه اللحظة يعتمد أسد على جلب المرتزقة من كافة الجنسيات وعلى رأسهم الميليشيات الولائية متعددة الجنسيات، حيث شاهدنا منذ العام 2011 وجود ما يطلق عليه الزوار في داخل العاصمة السورية دمشق، وكانوا يحملون بطاقات شخصية تثبت بأنهم من الحرس الثوري الإيراني، وقد أثبت ذلك عبر وقوع 45 إيرانياً بقبضة فصيل فيلق الرحمن (لواء البراء سابقًا) الذي عمل في الغوطة الشرقية، وكانت غالبيتهم العظمى من الحرس الثوري الإيراني ومنظومة ملالي طهران.
يرى جلو، أن موضوع استجلاب المليشيات الإيرانية، لم يكن أمره راجعاً لنظام أسد بل للنظام الإيراني، فقد كانت هناك عدة آراء لدى النخبة السياسية الحاكمة في طهران، والتي ترى ضرورة التدخل بالساحة السورية، وهذا التدخل -حسب حديث جلو لأورينت- هو الأرخص سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، إذ يكون عبر الميليشيات دون الانخراط العسكري الرسمي منها، وقد استفادت لاحقًا من ظهور داعش وخطابها، وأشباهها، بوفرة المتطوعين من الجنسيات المختلفة للقدوم إلى سوريا.
ويمكن ملاحظة أن إيران تعتبر بشار أسد هو الوتد الرئيسي لمشروعها في المنطقة وخاصة بعد الربيع العربي الذي كان يهدّد مشروع ولاية الفقيه، فإيران دعمت الثورات لإسقاط اليمن والبحرين وبعض الدول الأخرى، لكنها رفضت دعم الثورة السورية لأنها ستنهي مشروعها إلى الأبد وفق تصوّر صنّاع القرار الإيراني.
يقول النعيمي، إن التعاون بين أسد وإيران ليس فقط من خلال السياسة أو العسكرة وإنما التعاون مبنيٌّ على إستراتيجيات طويلة الأمد يخدم كلا المشروعين بعضهما من أجل بقاء هيمنة مشروع ملالي طهران في المنطقة وأن تبقى سوريا خاصرة رخوة تهدد أمن العرب بالدرجة الأولى، ومن ثم يتم ترسيخ التموضع الإيراني فيها لتصبح ولاية تابعة لها كما باقي الولايات التي تتبعها ما بعد احتلال الأحواز والعراق ولبنان واليمن مؤخرًا.
ترسيخ التغيير الديمغرافي
قبل اندلاع الثورة السورية كان قد سبق وجود الميليشيات الإيرانية اهتمام واسع بتشكيل نفوذ تشييعي يمتدّ إلى المتوسط يقطع المحور السني (التركي- السعودي)، ووفق دراسة نشرها الدكتور عبد الرحمن الحاج، في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية بعنوان "أثر التدخل الإيراني في سوريا على الخريطة المذهبية"، إن التغيير المذهبي في سوريا، يقوم على ثلاث آليات: الأولى وهي التشييع قبل اندلاع الثورة بدرجات متفاوتة لكل منطقة مع ما رافقه من الاعتماد على الأقلية الشيعية الصغيرة وأبنائها الموالين للولي الفقيه بالإضافة إلى العلويين المتشيعين، والثانية هي تجنيس المقاتلين الشيعة، والثالثة هي التهجير والتوطين والذي لا يمكن أن يؤدي إلى تغيير في الخارطة المذهبية في سوريا إن لم يتبع بتوطين أو تجنيس. وفي حين أن التبشير كان الأداة الرئيسية للتغيير المذهبي في مرحلة ما قبل الثورة، فإن تغييرات ما بعد اندلاعها منحت إيران الآليتين الأخريين المتولدتين من مناخ الحرب.
ويمكن اعتبار أن الثورة السورية ساعدت الإيرانيين على توسيع تدخلهم وحرق مراحل في البقاء الأقوى والأطول، والانتقال من الاعتماد على التبشير إلى الاعتماد على القوة العسكرية والأمنية عبر توطين المقاتلين وأسرهم وبناء وجود محلي كأمر واقع من خلال الجيوب الشيعية الناشئة والميليشيات المحلية المتشيعة، المتكفلة بعمليات القصف والتهجير والاتفاقيات المحلية، هذا عدا عن تجنيس المقاتلين الأجانب الشيعة وهو من الامتيازات التي تُمنح لهؤلاء المرتزقة وعائلاتهم عند إنهائهم الخدمة وْفًقا لشروط التعاقد.
يعتبر الباحث جلو، أن هناك عقدة نقص لدى نظام أسد منذ اختطافه الحكم في سوريا، تتمثل بضعف قاعدته الديمغرافية/ المذهبية، تخطاها الأسد الأب في وقت سابق بشراء فتوى موسى الصدر تعيد الفرع للأصل، لكن بقيت العقدة موجودة، نتيجة قلة المكون الشيعي في سوريا، ويضيف أنه ومع قيام الثورة السورية ورغم دفاع إيران عن نظام أسد، إلا أنها استثمرت ضعف نظامه بالقيام بعمليات تغيير ديمغرافي، ضمن إستراتيجية البقاء الطويل الأمد، حيث تدرك طهران أن وجودها مؤقت، بالإضافة لدرس تعلمته من تجربتي دولتي الفاطميين والصفويين، إذ زالت الأولى نتيجة تغاضيها عن التغيير المذهبي، فيما بقيت الثانية نتيجة قيامها بهذا التغيير.
"مما يظهر على الساحة السورية وعبر سنوات الثورة، يمكننا تأكيد فكرة أن نظام الأسد لا يستطيع رفض أي طلب للإيرانيين فهم يتحركون في كامل الجغرافيا السورية حتى ما قبل الثورة السورية من خلال قوافل الزوار القادمين إلى أداء مناسك الزيارة في الأماكن المقدسة في مقامات السيدة زينب والسيدة رقية والسيدة سكينة في محيط دمشق وريفها"، يقول الباحث النعيمي، مشيراً إلى أن وجود الإيرانيين لا يعني أنهم بحاجة إلى موافقة بشار أسد، بل على العكس فوجودهم أعلى من سلطة أسد بحيث يتجولون كما يشاؤون ويعملون على الطقوس الدينية الخاصة.
التعليقات (2)