لا مؤشرات على توقف الحرب ضد غزة، ثمة إصرار إسرائيلي كبير في المضي إلى ما لا يُعرف مداه أو نهايته، الغرب متضامن مع سردية تل أبيب بل مُلتحف حولها، ولا يجد في سواها الحق والحقيقة. وصحيح أن الفلسطينيين تعرّضوا لكل أنواع المجازر والحروب، ومحرومون من دولتهم، وغزة مُحاصرة زهاء عقدٍ ونيف من العقد، والحق لا يسقط بالتقادم، لكن إشعال حرب كهذه، دون حساب ردة الفعل وموازين القوة، واصطفاف القوى الفاعلة في الشرق الأوسط، تقود لمهالك محتومة.
غالبية الإدارات الأمريكية، والحكومات الغربية لم تقدم حلولاً خارج استفادة الإسرائيليين للمقتلة الفلسطينية، والعرب غير مستعدين للدخول في مواجهات محسومة سلفاً مع إسرائيل التي لا تكترث لكل المنظمات الحقوقية والإنسانية التي توثق فظاعة ما حصل وما يحصل حالياً، ولا ما سيحصل لاحقاً.
التطبيع مستمر، بل ثمة "طلبات انتساب" تكثر هنا وهناك للانضمام "للنادي الإبراهيمي"، والمنطقة تتجه صوب التغيير من حيث تكرار الحديث حول مواجهة أمريكية-إيرانية، والوضع الاقتصادي والمعيشي في لبنان، وتواصل القصف على الشمال السوري، كُلها بكفة، وتسريع وتيرة التطبيع بين الرياض وتل أبيب بكفة أخرى.
توقيت العملية
تزامنت عملية "طوفان الأقصى" مع عدة مُحركات وتحولات عميقة في الشرق الأوسط والعالم، أولها: اشتراط المملكة العربية السعودية حلاً للقضية الفلسطينية أولاً قبل أي تطبيع، وهو ما يعني خلق التوازنات السياسية والعسكرية بين الفصائل العسكرية والسياسية في فلسطين، وضمان حصول الفلسطينيين على حقوقهم كاملة، وتعرية الجهات التي كانت تتسبب بهدر كل هذه الدماء، وربما لن تكون بعيدة عن مشروع حل الدولتين.
والتحول الثاني يتمثل بتسبب مشروع الممر الاقتصادي الرابط بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، بإلقاء الضوء على الموقع الجغرافي الإستراتيجي الذي تحظى به العاصمة السعودية الرياض على طريق التجارة بين الشرق والغرب، والثقل الذي تتمتع به في محيطها الإقليمي، كنقطة ارتكاز في أي مشروع واعد بين القارتين.
ويلحق تبوؤ السعودية مركز الصدارة والريادة في ذلك المشروع، والذي ينطلق من غرب الهند وصولاً الى أوروبا، مروراً بالجزيرة العربية والشرق الأوسط، أضراراً اقتصادية فادحة بإيران ومشروع الطريق والحزام الصيني، لذلك تستعجل أمريكا والاتحاد الأوروبي رعاية وحماية الاتفاق، للاستفادة منه، وحصار الصين ومشروعها "طريق الحرير"، خاصة وأن الممر الهندي -الأوروبي يمنح السعودية نمواً اقتصادياً مذهلاً في مجموعة الــ"20"، وهو ما يضع الرياض كقوة عظمى في الشرق، ومحط استقطاب القطبين التقليديين.
أما التحوّل الثالث، وربما لا أجانب الواقع إن قُلت، إن مشروع استضافة الرياض لمسابقة كأس العالم في عام 2034 يُضاف لسلسلة الممهدات السابقة التي تستعجل تغيرات في الشرق الأوسط، فالرياضة وكأس العالم تحديداً في السعودية تأخذها لمنحى آخر، وفق ما يُخطط له ولي العهد السعودي، من تغيير في حده الأدنى سيطرأ على طبيعة الحياة الاجتماعية ونوعية التشبيك الاجتماعي والعائلي، وقضايا التشدد الديني وغيرها، وما الأرقام الفلكية لاستقطاب اللاعبين الدوليين للعب في الدوري السعودي سوى ممهد لذلك، خاصة وأنهم سيكونون جزءاً من الملف التعريفي لمشروع الاستضافة، ولا أقتنع بانفصال الرياضة عن السياسة، ولا قضية أن ملف الاستضافة يأتي عبثاً وبمحض الاختيار.
المستفيد الأكبر
ربما يتطور الأمر أكثر، وتستمر الأزمة طويلاً، ولا تكتفي بما حصل من دمار وتكلفة بشرية باهظة، فكل الدول المناهضة للسعودية لن ترتاح بأخذها صدارة العالم العربي والإسلامي، وإيجاد الحلول للقضية الفلسطينية، ولا الأرقام الفلكية والمرعبة التي من المتوقع أن تستفيد الرياض من المشروع الاقتصادي واستضافة مسابقة كأس العالم لكرة القدم.
لكن أكثر المستفيدين حالياً من هذه الحرب هي روسيا التي حصلت على نفسٍ إضافي وفرصة ممتازة في حربها ضد أوكرانيا، مع تحوّل انتباه المجتمع الدولي عن الأزمة في كييف.
وتنطلق السياسة الروسية حالياً من تغيير الأولويات خاصة وإنها تبني الكثير على نجاح الجمهوريين في الانتخابات الأمريكية المقبلة في تشرين الثاني 2024، كونهم يسعون لإعادة النظر في المساعدات الأمريكية لأوكرانيا، كما تتقاطع مصالح إيران والصين وروسيا وكوريا الشمالية، في كل ملفٍ يخلق أزمة للإدارة الأمريكية الحالية أو غيرها، خاصة مع عزم واشنطن تخصيص المزيد من الوقت والخطط المطلوبة للأزمات الحالية في الشرق الأوسط.
الخاسر القادم
حالياً، تبدو موسكو مستفيدة من الحرب، لكن لو تحولت إلى حرب مفتوحة ودخلت إيران وميليشيا حزب الله على خط المواجهة، فإن روسيا ستتحول للخاسر الأكبر، وتتلقى ضربات كبيرة، فالقواعد العسكرية الروسية في سوريا هي محور وعصب القوة الروسية في الشرق الأوسط وإفريقيا أيضاً، ولن تكون بعيدة عن الأضرار الجسيمة، لو توسعت دائرة الحرب، إضافة لدور المسيّرات الإيرانية لجانب الجيش الروسي ضد أوكرانيا، خاصة وأن موسكو وبخلاف مُعظم العواصم الأوروبية، لم تصف حماس بـ"الإرهابية".
هذا التشبيك بين موسكو وطهران، ربما ينعكس سلباً على الجيش الروسي في أوكرانيا، فالأخيرة لم تستلم، أو علناً على الأقل، أيَّ مساعدات عسكرية من تل أبيب، ولا تفتقد موسكو للذكاء الإستراتيجي للدخول في مواجهة توازن الرعب الذي ستمنحه تل أبيب إلى كييف، لو دخلت روسيا الحرب لجانب حليفتها إيران، فموسكو هي من رعت سابقاً انسحاب العديد من الفصائل من الحدود الجنوبية لسوريا، حماية لأمن تل أبيب.
حالياً تكتفي موسكو بدعم الرأي العام المؤيد للفلسطينيين على أمل إضعاف الموقف الغربي، وهو موقف يتقاطع بشدة مع مواقف طهران بكين وبيونغ يانغ الساعين لأيّ تعثر في أيّ ملف في الشرق الأوسط لاتهام واشنطن والغرب بالتسبب بالأزمات وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط والعالم، وإحياء التوترات التقليدية فيها، ومنعها من تنفيذ مشاريعها.
التعليقات (4)