لابد من كلمة حول هذا الأمر لأهميته من جهة، ولأنه يشكل جزءاً من تاريخ الثورة السورية تم التلاعب به كثيراً من جهة أخرى. إن مفهوم الوطنية في الواقع يحمل في داخله نويّات تفجّره في لحظة ما من التاريخ، يمكن للوطنية أن تستغرق البعد الوجداني للفرد في علاقته بمنبته أو وطنه، مجموعة من الأحاسيس والمشاعر سواء غلفت بهذه الأيديولوجيا أو تلك تبقى في الحيز الوجداني الشعوري منه واللاشعوري أيضاً.
لكن هل يصمد مثل هذا الانتماء أمام جملة المصالح المعقّدة في المجتمعات والدول؟ هل تصمد أمام مفاعيل نظام متوحش وفاشي كالنظام الأسدي في المجتمع السوري مثلاً؟ لماذا السوريون يودّون بنسبة كبيرة منهم مغادرة سوريا؟ حتى الموالون وحتى الذين ارتكبوا جرائم حرب بحق السوريين دفاعاً عن هذا النظام؟ عندها تصير الهوية الوطنية المبنيّة على البعد الوجداني- وكما قلت مهما كانت الأيديولوجية التي يتغلف بها- نافلة، الجوع الفقر اللاكرامة اللاحرية مع هول الجريمة الأسدية، كلها تجعل من هذا البعد الوطني نافلاً.
البعد الآخر لمفهوم الوطنية، هو شعور وموقف إزاء الخارج سواء كان معتدياً عابراً أو محتلاً أو ينوي الاحتلال والإضرار بالمصلحة السورية مثلاً، هنا تدخل المفاهيم في بعضها لدرجة من الصعب القبول بالكثير من هذه التداخلات وفقاً للمعطيات السياسية والقوى القائمة على الأرض، شعوب النظم الديكتاتورية ومنها النظام الأسدي، لم تعد تقيم وزناً يذكر لهذه الخطابات والتداخلات، من تراه أنت خائناً يراه آخر مناضل، من وقف ضد ثورة الشعب السوري على أية أرضية كانت لا يمكن تقييمه انطلاقاً من هذا المفهوم، بل يتم تقييمه انطلاقاً من قيم إنسانية أعلى، إنه يساهم بشكل أو بآخر في استمرار الجريمة بحق شعبه، من طلب التدخل الدولي لحماية المدنيين من التوحش الأسدي، بغض النظر عن دوافعه وقراءته للوحة، سياسياً وإنسانياً هو أكثر وطنية!.
كان هنالك خلافاً خلال الثورة السورية مصطلح "الرماديون" الذيين يختبئون خلف أمثال "لا ناقة لنا ولا جمل" أو خلف "من ينتصر نصفّق له" أو حتى خلف من قال "فخار يكسر بعضه"، وهؤلاء كتلة ليست سهلة في المجتمع. كيف يمكن قراءة البعد الوطني في موقفهم؟ في هذا المستوى كما أسلفت هنالك تداخلات وتشعبات كثيرة.
أما المستوى الأخير في هذه العجالة هو الصراع بين هذه الوطنيات وبين المواطنة. يمكننا أن نسميه أيضاً اشتباكاً دائماً، خاصة في الدول التي تحكمها ديكتاتوريات متوحشة، كالديكتاتورية الأسدية. تقوم هذه الديكتاتوريات بإلغاء المواطنة لصالح الوطنية!! هنا تبدأ أزمة المفاهيم والمصطلحات بين نخب مخربة سلفاً، هذا المستوى يحتاج منا إلى قراءة متأنّية من جهة وبحثٍ مستمر عن فضّ الاشتباك لصالح المواطنة وليس لصالح الوطنية في دولة مثل سوريا، والسؤال لماذا لصالح المواطنة؟.
قبل أن أجيب لا بد لي من التعريج إلى انشقاق بعض النخب السورية عن ثورة شعبهم!! وخاصة من التيارات اليسارية والتي حملت موضة العلمانية، انشقاقها عن دورها المفترض والذي دفع بعضهم لأجله في السابق سجوناً طويلة عند الأسد.
كان كل همّ هذه النخب منذ انطلاق الثورة، هو أن تسننها، وتطيفها، لكي تخلع عنها رداء الوطنية!! وأية وطنية؟ هذا الانشقاق وترك شعبهم فريسة لتيارات أخرى، لم يكن وليد موقف وطني كما يدعون، بل هو نتيجة لانشغال طائفي عميق، يتكثف في جملة لافروف وزير الخارجية الروسي "لن نسمح للسُنة بحكم سوريا". للأسف منهم نخب الآن تحاول ركوب موجة الحراك في السويداء، وهي في العمق لا تريد لهذا الحراك أن يتوسع، هذا الانشقاق الانسحابي أياً تكن أسبابه، تلقته تيارات الإسلام السياسي وبعض تيارات الإخوان المسلمين بالترحاب، على مبدأ "نحن السُنة ولاك" هم انسحبوا ونحن أهل الضحية!! كان الهجوم على الثورة الحقيقية التي انطلقت من حوران وامتدت إلى أغلبية مدن وبلدات سوريا، مكثفاً مركزاً وأحياناً ممولاً، هذه الكثافة في الهجوم استقبلته بعض الجماعات الإسلامية بالترحاب.
هذا الانسحاب اليساروي العلمانوي في الواقع جاء تحت يافطتين: الأولى يافطة الوطنية العلمانية اللاطائفية!!. الثانية يافطة أهمية الحفاظ على الدولة ومؤسساتها!! وأية دولة هذه؟ هي الدولة الأسدية بالذات لا شيء آخر، هاتان اليافطتان تحتاجان لرد خاص ومفصّل، سنتركه لمادة لاحقة.
ماذا تعني المواطنة وما علاقتها بالوطنية "الأسدية" التي يتبناها قسم مهم من التيارات اليسارية والقومجية.
المواطنة كما جاء فى بحث لمحمد طلعت، هي وضع اجتماعي يضمن حقوقاً وفرصاً متساوية لجميع الأفراد، ليس فيما يتعلق بنوع الجنس فحسب، بل يشمل الكيان السياسي المعين للدولة، كما إنه ينطوى على عضوية كاملة فى مجتمع سياسي يضمن حقوقاً أو مسؤوليات مدنيّة وسياسية واجتماعية متساوية.
يمكن أن نتحدث ببساطة وفقاً للتعريف أعلاه عن مواطن فرد بوصفه هيئة اعتبارية يجب أن تشارك بفعالية في مصير مجتمعها السياسي والمدني وعلى كافة الصعد التي تكفلها دولة القانون وحقوق الإنسان.
هذه المواطنة وتحديثاتها الفكرية المستمرة حتى يومنا هذا، كان آخرها الحديث عن "المواطنة الرقمية". المواطنة الرقمية كما ترى الباحثة المصرية أمل جمال، مفهوم جديد متصل بما أحدثته وسائل الاتصال الحديثة وخاصة الإنترنت، وهو مفهوم "دولة الإنترنت"، وربما تكون التسمية غير دقيقة إلا أنها الأكثر شيوعاً واستخداماً، صحيح أنها فى بعض الحالات لا تتنافى مع المبادئ الموروثة في علاقة المواطن بمحيطه البشري والاجتماعي، إلا أنها تعطيه ولو بشكل افتراضي وطناً أكثر اتساعاً يضاف إلى وطنه الأصلي. هذه المواطنة وتحديثاتها هي بؤرة الصراع في سوريا مع نظام فاشي. الوطنية في حالتنا السورية هي المواطنة، من ليس مواطناً فلن يكون وطنياً مهما انتابته من مشاعر ومهما تغلّف في أيديولوجيات من شأنها إدامة الأسدية.
من هذه المقدمات أعلاه نستطيع القول إن حراك السوري وبرنامجه الديمقراطي السوري، لا يستطيع أحد أن يزايد عليه بمفاهيم الوطنية التالفة والأسدية وبعض اليساريين الخائنة، شعاراته سورية مطالبه سورية ديمقراطية، يمكن تكثيفها بمبدأ المواطنة المجبول بطين البلاد وأولاد بلدها من أجل مواطن حر كريم، رغم ما نراه أحياناً من نقاشات بينية بين السوريين خاصة القاعدة الشعبية للثورة السورية، لكن الجميع متفق على ثلاث نقاط:
الأولى ما يحدث في السويداء هو امتداد بشكل أو بآخر للثورة السورية. النقطة الثانية المدن المدمّرة ترنو بأمل لهذا الحراك تراقبه تتابعه رغم عجزها عن الخروج في تظاهرات في معظمها لأسباب الجميع يعرفها. النقطة الأخيرة هي تفهم معظم أبناء الثورة للأعلام التي يرفعها متظاهرو ساحات الكرامة في السويداء، عن محاولة اللعب على وتر الوطنية من خلال قضية الأعلام وبعض الرموز ما هو إلا خدمة لنظام الأسد، أو لأجندات أكل الدهر عليها وشرب، ويحتاج الرد عليها إلى بحثاً خاصاً لكنه لن يجدي نفعاً مع هؤلاء، بناءً على ذلك يجب دعم حراك السويداء من كل السوريين التوّاقين لرؤية أنفسهم مواطنين كاملي العضوية في مجتمعهم الحلم، مجتمع الحرية والكرامة وحقوق الإنسان ودولة القانون.
في النهاية لابد من التعريج على أمثلة طالما تم تجاهلها، المناضل الوطني ضد الاستعمار الفرنسي سلطان باشا الأطرش، بفضل هذا النضال صار شخصية وطنية سورية، إضافة إلى أنه درزياً. "أكثرية المجتمع السوري السنية" ونخبها هي من انتجت هذه التسمية، وهي من جعلت سلطان باشا الأطرش شخصية سورية وليس شخصية درزية فقط. كذلك الأمر ينطبق على فارس بك الخوري. وكذا الأمر ينطبق بشكل أو بأخر على راية الخمس حدود الدرزية. التي رفعت وترفع في السويداء على أرضية برنامج ديمقراطي مدني وعلماني سوري. تماماً كعلم الثورة الذي رفع على أرضية برنامج ديمقراطي سوري، أما علم "سوريا الأسد" فهو يرفع من أجل استمرار الأسدية، من وجهة نظري أزعم أنه لا فصال في مثل هذه الأمور.
التعليقات (2)