السويداء تستعيد هويتها التاريخية.. هل تغيّر الموازين؟

السويداء تستعيد هويتها التاريخية.. هل تغيّر الموازين؟

استعادت السويداء بانتفاضتها هويتها وتاريخها اللذين حاولت عائلة الأسد طمسهما، بعد أن مارست جميع وسائل الإذلال والقمع بحقها كما بحق جميع السوريين على امتداد الوطن، وبدأت تأخذ مكانتها الطبيعية التي تبوأتها عبر تاريخها كجزء من الشعب السوري، ودورها الريادي في الكفاح ضد الجيوش الغازية وبينها الاحتلال الفرنسي، وتحولت ساحة الكرامة التي يزداد عدد المحتجين فيها يوماً إثر يوم إلى ملتقى وطني، يعيد للذاكرة مرحلة النضال التي قادها أبطال الاستقلال ومن بينهم يوسف العظمة وسلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو بعد أن غيّبت عصابة العائلة الحاكمة حضورهم على مدى عقود، ويبث الروح والأمل في الثورة السورية من خلال ترديد الهتافات والشعارات التي أطلقها السوريون منذ انطلاقتها في العام 2011. 

ساحة الكرامة شكّلت عنواناً لعرس وطني، يحتفي الأهالي فيه باقتلاع رموز النظام من المحافظة إيذاناً بحقبة استقلال جديدة بدأت من بيان الأهالي الذي رفعوه على أعلى بناء في الساحة ليرى القاصي والداني بنوده التي صاغتها حناجر الأحرار، ولتطرق أسوار القريب والبعيد، وهي: تقرير مستقبل سوريا يبدأ بتنفيذ القرار 2254، مطالبنا إقامة دولة العدالة والكرامة، انتفاضة السويداء السلمية المدنيّة مستمرة، وهو ما كرره غير مرة الشيخ حكمت الهجري الرئيس الروحي للمسلمين الموحدين وشيخ العقل حمود الحناوي.

السويداء عبر تاريخها كانت وما زالت بيضة القبان في المشهد السوري، وقيامتها التي نشهد تطوراتها لا رجعة فيها، وانتفاضتها انطلقت كما السهم، ولم يعد أو يتراجع، بحسب تعبير الشيخ الحناوي، الذي ذكّر النظام في أكثر من مناسبة بكفاح أهل السويداء وتصديهم للجيوش الغازية عبر التاريخ وبينها مقاومتهم الاحتلال الفرنسي، والهدف هو بناء بلد مستقل بكل مقوماته الفكرية والسياسية والاجتماعية كما قال الشيخ الهجري، إذ شدد أيضاً في غير مناسبة على أن سوريا هي لجميع السوريين بالمطلق، ودم السوري على السوري حرام، ومن حق الأهالي الحياة والسلام والاستقرار والطمأنينة على أرض الوطن، والساحة تمثلنا كلنا ومن يراهن على الوقت فنحن وقتنا مفتوح وحقوقنا سنحصل عليها. 

النظام يدرك أن سياسته وما فعلته عصابة العائلة ليست بلا نهاية، وأن ما مرت به البلاد من تاريخها لم يكن سوى مرحلة خطأ وغفلة كما وصفها الشيخ الحناوي، منذ أن اغتصب حافظ الأسد الدولة على مدى عقود وأرخى عليها حقبة سوداء بتاريخ البلاد كانت أشد وطأة من أي احتلال، ولا سيما أنه وابنه وعصابة العائلة الحاكمة، ارتبطوا بالخارج، وربطوا شرعيتهم به وهو ما اتضح من خلال سرعة دخول الجيوش الأجنبية إلى البلاد لإنقاذ بشار من السقوط، واستحق بحق لقب عدو الشعب. 

ولعل أقسى كلمة يسمعها بشار هي الكرامة التي كان نزعها عن البلاد، ما مكّنه وأباه من قبله من الحكم، فهي نقيض تفتيت البنى الاجتماعية ومنظومتها الضامنة لقيم المجتمع التي اعتمدتها عصابة العائلة الحاكمة وأدواتها من خلال تقسيم المجتمع لضمان بقائها في الحكم، وتأليب المحافظات على بعضها والعائلات وحتى الإخوة بأن زرعت الشر والفتنة بينهم ونشرت المخابرات بين الأهالي تعيث فساداً وتشرعن الرشا والإتاوات والنهب والتباهي بانعدام الأخلاق والقيم والسخرية منها والهدف الأساسي هو تقليص قيمة الفرد وتطويعه ليقرّ علناً بينه وبين ذاته بأنه دائماً هو أقل قيمة من الفاسد الأكبر عديم الأخلاق والضمير بشار.

وأيضاً لم يكن وقع مشاهد الأهالي على النظام سهلاً، وهم يعيدون في ساحات السويداء ما بدأته الثورة في العام 2011 بإطلاق هتاف "الشعب السوري واحد" وهو الذي عمل على تقسيم بين فئات، قسم منها يوقع بيع كرامته على التقارير التي يكتبها بالآخر، وهو نهج سبقه فيه رئيس رومانيا السابق تشاوشيسكو وباقي الدول التي كانت تقول إنها اشتراكية، ولم يكن من باب المصادفة أن وجّه الأهالي في السويداء أول خطابهم نحو آداة التقسيم المتغلغلة في المجتمع وهو تنظيم حزب البعث فأغلقوا مكاتبه وحوّلوها إلى جمعيات خيرية.

وما يخيف النظام الآن هو الطابع الاجتماعي القيمي لانتفاضة السويداء وتحليها بالأخلاق الوطنية، إذ أعطى الشيخ حمود الحناوي درساً بأن السلطة ومن يقف وراءها هدموا الإنسان في سوريا وأوصلوا البلاد إلى واقع مرير من التفكك القيمي والأخلاقي وفتكوا بالشعب، مؤكداً أن أصل الأزمة هو الفساد، وأنهم أفسدوا الجيل وفككوا المجتمع وما نتج عنه من انقسامات، وأن كرامة الوطن هي من كرامة أفراده، والشعوب تنهض بالإنسان والوطن، فكرامة الوطن هي من كرامة الأفراد، والعالم المتحضّر يبني الإنسان ومؤسساته من أصغرها إلى قمتها، خدمة للفرد، لا كما أراد بشار تحويل الأفراد والمجتمع إلى خدم وعبيد عنده.

وتدرك عصابة العائلة الحاكمة أيضاً أن هناك نهاية لاستباحتها الدولة بعناصرها الثلاثة "الشعب، الأرض، السلطة" من خلال الاستبداد الذي هو احتلال داخلي كما يعرّفه العلامة عبد الرحمن الكواكبي، ومارست سياسة أشد قسوة من الاحتلال الخارجي، وبأنها وصلت إلى طريق مسدودة في تعاملها مع الدولة السورية بوصفها ملكية خاصة وسكانها عبيد بخدمة فرد يتمتع بقداسة ملوك العصور الوسطى، من خلال إرهاب الأهالي والقتل والاعتقال.

الشعوب هي دائماً على حق، والنصر حليفها طال الزمن أو قصر، كما قال الشيخ الحناوي، ولعبة انقضاض عصابة العائلة الحاكمة على مفهوم وحدة المجتمع انتهت ولا مجال لأن يستمر النظام بأخذ دور المحتل الفرنسي في تجزئة البلاد ووضع حواجز غير معلنة بين مكوناتها بأدوات طائفية ومافياوية شريرة، وإن غلفت بشعارات باتت مستهلكة ومرفوضة شعبياً.  

لن يستطيع النظام استخدام الحل العسكري ضد الأهالي في السويداء خاصة وأن قراره بات في يد الروس والإيرانيين الذين أعلن الشيخ حكمت الهجري حق الجهاد لطردهما من البلاد، ما يعني أن أي عمل عسكري ضد الأهالي في السويداء سيكون بقرار منهما وأي تهوّر يسرّع من انتفاضة جميع السوريين ضدهم وتدخل قوى دولية وإقليمية أخرى، وعليه فقد بات جلّ همهم الحفاظ على ما اغتنموه من البلاد.

محاولات النظام لإثبات وطنيته زوراً ومن خلال تأكيده أنه رئيس شرعي، واتجاهه إلى الصين لإثارة ضجيج إعلامي للتغطية على الانتفاضة، هي محاولات يائسة، انقلبت عليه بأن أصبح بنظر الأهالي يبحث عن احتلال ثالث ليكون عميلاً له، والانتفاضة باتت بحجم تستطيع معه تجاوز تلك المحاولات كما محاولات أبواقه التي أطلقها ضد الأهالي وباتت هزيلة ومجرّد ردود فعل هزيلة على انتفاضة لم يكن يتوقعها، وشكلت صدمة له وكشفت زيف ادعاءاته، وعرّته أمام العالم، من خلال الحقائق التي أطلقتها. 

"الرئيس" هو عميل للخارج خان شعبه وهو مستمر في طريق العمالة والإجهاز على آخر ما تبقى للبلاد من كرامة، وهدف الانتفاضة إسقاطه وتحرير البلاد من عصابة العائلة الحاكمة وقوى الاحتلال التي استقدمتها إلى البلاد، هذه هي القاعدة التي يعمل عليها الأهالي في السويداء، وأهم الأدوات في ذلك مواصلة تكنيس رموز النظام وتنظيم حزب البعث الإرهابي من مدن وبلدات المحافظة، ومع هذا الكفاح تزداد تجذراً في التصميم على تحقيق أهدافها بإسقاط النظام.

قوة تأثير الانتفاضة يكمن في جذريتها واستمراريتها، فمع التمسك بالمطالب واستعادة الهوية الوطنية التاريخية، والتصميم وعدم التراجع يزداد عرش النظام اهتزازاً، وكلما ازداد اهتزازاً كلما ارتفعت الأصوات في محافظات أخرى، فانتفاضة السويداء هي امتداد للثورة السورية العظيمة التي رفعت منذ بداية انطلاقتها شعارات الحرية والكرامة بمثابة عنوانين متلازمين وحاجة وضروة إنسانية وأخلاقية، دفع السوريون من أجلها مئات الآلاف من الشهداء، والانتفاضة تتحدث باسم جميع السوريين وتصوّب نحو الهدف مباشرة وهو إسقاط نظام.

الانتفاضة الشعبية في السويداء ومع اتساع حجم المشاركة فيها وتحوّل مدنها إلى ساحات للكرامة والحشد الكبير الذي شهدته مدينة شهبا الثلاثاء، مثال ساطع على ذلك، ما زالت تُسقط كل الرهانات على توقفها، ولكنها لن تتراجع فقد جاءت صرخة دم شعب مظلوم وهي ماضية ليس فقط في مسار وقف انهيار البلاد، بل وأيضاً للإمساك بزمام المبادرة من قبل الشعب السوري، والدافع المعنوي للانتفاضة التي فاجأت العالم، لا شك أنه بلحظة ما سيفعل فعله بين السوريين في مختلف المحافظات ويفجر انتفاضات على الرغم من الآلام المتراكمة التي تسبب بها النظام والقبضة الأمنية المستنفرة وعجزه عن تقديم أية حلول للكارثة، والثقة معقودة على قدرات شبابه الخلاقة والقيم النبيلة لهذا الشعب بجمع الصفوف، فوطن بحجم سوريا العظيمة يحتاج لقادة وطنيين وحكماء وليس لمستبد عميل وضيع لأنظمة وضيعة مثل روسيا وإيران. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات