الفسيفساء... الحرفة التي أحياها مهجرو كفرنبل بعد أن كادت تندثر

الفسيفساء... الحرفة التي أحياها مهجرو كفرنبل بعد أن كادت تندثر

بتناسق مذهل وإبداعات جميلة تربط عراقة الماضي بأصالة الحاضر، يعمل الشاب "هيثم ثلجة" المهجّر من بلدة الفطيرة جنوب إدلب على رسم لوحات فنية بطريقة مذهلة، عبر صف قطعٍ صغيرةٍ من الفسيفساء، تتفوق بجودتها وأنواعها جودة الصور الفوتوغرافية، ينقل من خلالها مقتطفات من الطبيعة والحياة بأسلوب تاريخي عريق.


وتعدّ الفسيفساء أو الموزاييك فناً يعود بأصله إلى تجميع ورصف قطع صغيرة ملوّنة قد تكون من الأحجار أو الأخشاب أو الخرز أو الزجاج أو حتى من المسامير لتشكيل لوحات فنية كبيرة، إذ تُشكل هذه القطع الملونة بعد رصفها بطريقة بديعة وجذابة أشكالاً عديدة منها زخارف أو نباتات أو حيوانات أو أشخاص.

دقة وإبداع

 

يقول "ثلجة" الذي ورث الحرفة عن أجداده في حديث لـ أورينت نت: "قمنا بتطوير هذه الحرفة في السنوات الماضية، إذ بدأنا في تطوير عملنا عقب التهجير أي منذ قرابة ثلاثة أعوام، وذلك باستخدام قطع حجرية أصغر قياساً من حجمها السابق وأيضاً أقل سمكاً من سابقتها مع إدخال ألوان جديدة للوصول إلى مرحلة الجودة العالية التي نعمل بها حالياً".

 

وبحسب "ثلجة"، فإن صناعة اللوحة تحتاج إلى مواد خاصّة أبرزها مادة لاصقة (شعلة)، وأيضاً (الغربول) أي قطعة من الشبك الناعم، وقطعة من البلاستيك أي (المشمع)، فيما تحتاج هذه الحرفة إلى الكثير من الصبر، مشيراً إلى أن بعض اللوحات تأخذ حيزاً طويلاً من الوقت لإكمالها، وخاصّة إذا كان محتوى اللوحة يعبّر عن ملامح شخص ما أو صورة له، مشيراً إلى أن مدّة إنجاز اللوحة إذا كانت بحجم متر مكعب تتطلب أسبوعين على أقل تقدير، بهدف الخروج بلوحة احترافية خالية من أية أخطاء.

يضيف: "فن الفسيفساء يحتاج إلى دقة بالغة بالعمل والانتباه لأدق التفاصيل، لإظهار الملامح الحقيقية للشخص المراد رسمه، والتي تكون أكثر صعوبة من اللوحات التي تجسد أشكال الطبيعة أو الزخارف".

 

 

مصدر رزق وصعوبات  

ووفقاً لـ "ثلجة" فإن حرفة الفسيفساء تشكّل مصدر الدخل الوحيد لـه ولعائلته والعاملين معه في ورشته الكائنة في بلدة باريشا شمال إدلب، لافتاً إلى أنه ورغم الجهد عانوا هناك من صعوبات عدّة، أبرزها عدم توافر المواد بشكل دائم إضافة لغلاء سعرها باستمرار بسبب إغلاق الحدود مع أغلب الدول المجاورة، إضافة لندرة الأحجار الملونة المطلوبة لصناعة اللوحة والتي كانت تتوفر بكثرة في منطقة "كفرنبل" التي باتت تحت سيطرة ميليشيات أسد.

أما عن التسويق فقد شكّل هو الآخر صعوبة بحد ذاته، إذ اشتكى "ثلجة" من غلاء أجور النقل إلى الخارج التي قد تزيد عن تكلفتها، لافتاً إلى أن إحدى اللوحات أرسلها إلى السعودية بـ 400 دولار أمريكي، في وقتٍ يبلغ سعرها في سوق إدلب 175 دولار، واصفاً التسويق في الداخل السوري بـ "الضعيف"، والسبب الأكبر من وجهة نظره هو غياب هذا الفن عن أسواق مدينة إدلب، نتيجة غلاء سعره وقلة طلبه في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية، داعياً في الوقت نفسه المهتمين بهذه الحرفة لحفظها وحمايتها من الضياع، وتسليط الضوء على الحرفيين ومعاناتهم وخاصة مع موضوع سرقة اللوحات التي تتم على أيدي سماسرة ينسبونها لهم دون ذكر صاحب اللوحة الأصلي.

 

كما تحدث "عبد الناصر بكور" وهو أحد العاملين في ورشة ثلجة لـ أورينت نت قائلاً: " أنا أعمل في هذه الحرفة منذ ما يقارب 15 عاماً مع الأصدقاء الفنانين، رغم كل الظروف والصعوبات التي واجهتنا منذ اندلاع الثورة السورية والخسائر الجسيمة التي تكبدناها".

يقول بكور لـ أورينت نت: "بعد احتلال مليشيات أسد لمدينة كفرنبل باتت بلدة الفطيرة المتاخمة للمدينة خط تماس، ما دفعهم للنزوح وإغلاق الورشة بعد أن تعرضت لقصف جويّ ومدفعي، مشيراً إلى أن هذه الصعوبات لم تثنهم عن إعادة فتح ورشة جديدة مماثلة شمال إدلب".

 

الفسيفساء ليست حكراً

بدوره ذكر "مصطفى عبد الحي" والذي يتقن فن الرسم والنحت على الحجر في حديث لـ أورينت نت، أنه أتقن فن الفسيفساء عام 2015 بعد أن ساعده الشاب "هيثم ثلجة"،مشيراً إلى أنه أنجز لوحات فنية عدّة منها "علم الثورة السورية" وشعارات عدّة لمنظمات محلية بالإضافة لإنجاز صور لشخصيات عدّة، حيث يتخذ عبد الحي هذه الحرفة مصدر دخل رئيسي له، ويؤكد أن اللوحة التي تتراوح مساحتها متراً واحداً ثمنها يبلغ ثمنها بين 100 إلى 200 دولار أمريكي، مشيراً أن العديد من الأشخاص أرسلوا صوراً له على الهاتف وقام هو بإنشاء اللوحة.

تراث قديم

ويرى الباحث وأستاذ مادة التاريخ "عبد الوهاب عبيان" أن هذه الحرفة هي تراث قديم واشتهرت بها مدينة كفرنبل في إدلب، إذ كانت سوريا قبيل الثورة السورية تحتل المرتبة الثانية عالمياً بعد إيطاليا، موضحاً أن متحف معرّة النعمان في إدلب كان أشهر وأكبر متحف فسيفساء على مستوى الدول العربية في الشرق الأوسط، إذ عُرضت لوحات عدّة للورشات المحلية في مدينة كفرنبل، حيث كان يتضمن قرابة الـ 2000 متر مربع من لوحات الفسيفساء، وكان يعرض منها ما يقارب 1600 متر مربع للزوار في أروقة المتحف.

 

 

وأكّد على أن فن الفسيفساء يعود بتاريخه إلى العصور القديمة، ويعدّ من الصناعات أو الحرف التي اشتهرت بها سوريا على مدى تاريخها الطويل، حيث تعتبر الفسيفساء السورية من أجمل الفسيفساء في العالم نظراً لجودتها العالية والإبداع المذهل في تصنيعها إضافة لغناها بالموضوعات الإنسانية والطبيعية التي تجسدها.

وأوضح أن مدينة إدلب وريفها تتمتع بتاريخ عريق في هذا الفن، ولا تزال هذه المدينة تعمل بهذا الفن المتوارث من الأجداد إلى هذه اللحظة على الرغم من سنوات الحرب الطويلة عليها، وأصبحت متوارثة من الأجداد إلى الأحفاد على مر مئات السنين.

التعليقات (1)

    عامر عبد الحي

    ·منذ 7 أشهر أسبوع
    نعم ، الفسيفساء فن وإبداع اشتهرت به محافظة إدلب، ويجب المحافظة على هذا التراث السوري العريق والمعروف عنها عالميا . وفقكم الله ..
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات