"الأربعينية الحسينية" .. كيف حولت إيران التشيّع إلى سياسة واقتصاد؟

"الأربعينية الحسينية" .. كيف حولت إيران التشيّع إلى سياسة واقتصاد؟

تتنافس التيارات الدينية والسياسية الشيعية على إحياء ذكرى الأربعين الحسينية، شاحنةً طقوسها بحكايا تقدم تفسيرات للاستشهاد تناسب تأطيرها في السياق السياسي الحالي، بعد أن تحول التشيع وطقوسه إلى عقيدة للدولة، وفي فرصة لتطوير هوية شيعية دولية، فبعد أن كان التشيّع مغلقاً على نفسه، وجد الشيعة، في الأربعينية الحسينية هويتهم العابرة للحدود الوطنية.

وتقوم "الأربعينية الحسينية" على السير على الأقدام لمسافات طويلة باتجاه مدينة كربلاء العراقية، لزيارة ضريح الحسين بن علي وإحياء ذكرى مقتله وأصحابه على يد جيش يزيد بن معاوية في العشرين من صفر عام 61 للهجرة، 680 للميلاد، حيث تنطلق المسيرة في العراق من مدينة البصرة قبل عشرين يوماً من الأربعينية، ومن إيران قبل شهر، ويسير القادمون جواً ليومين متواصلين من مدينة النجف، حيث مقام الإمام علي بن أبي طالب، وصولاً لكربلاء. 

فزيارة الأربعين من علامات الإيمان، عند أصحاب المذهب الشيعي، حيث تذكر إحدى الروايات، تزامن وصول قافلة أسارى أهل البيت إلى كربلاء، بعد تركها الشام، في يوم الأربعين، وفي زيارتها لمرقد الحسين التقت بالصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري وبعض بني هاشم.

لكن بعيداً عن الروايات المتعددة والمتباينة، أو مناقشة عقائد الناس وشعائرهم، ما يهمنا هو الحديث عن التوظيف السياسي واستخدام الطقوس الدينية لأغراض سياسية أو إستراتيجية، من قبل هذا الطرف أو ذاك، وفي حديثنا عن الأربعينية الحسينية، كان اللافت تضخيمها إعلامياً من قبل إيران، بعد سنوات من التوظيف السياسي لها، بداية إثر اعتقال ونفي الخميني بعد أحداث قم عام 1963، مروراً باتخاذها مثالاً لتأجيج الشارع الإيراني أثناء ثورة 1978-1979، ومن ثم اعتبارها سبباً لنجاح الثورة الإيرانية، التي أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي.

ففي حديثه عنها، قال إمام صلاة الجمعة في طهران، سيد محمد حسن أبو ترابي فرد: أن أكثر من أربعة ملايين إيراني توجهوا إلى العراق لأداء فريضة الحج الأربعينية. مضيفاً: "إن جماعة الأربعين الضخمة والفريدة من نوعها بإحداثياتها الخاصة، بحضور حوالي عشرين مليون مسلم وباحث عن الحرية في العالم، أظهرت مجد "ثورة عاشوراء" التي صنعت التاريخ".

التغلغل الناعم 

تعزز السياحة الدينية إجمالاً من قوة طهران الناعمة، من خلال تعزيز وجودها في المراكز الدينية العراقية، باعتبارها مركزاً للنفوذ الشيعي الإقليمي، حيث تأمل إيران، حسب رويترز، التأثير في خلافة "آية الله" السيستاني، أكثر رجال الدين الشيعة تأثيراً في العراق، ففي مقره بالنجف هناك وجود منتظم للحرس الثوري الإيراني. كما إن التحكم في تطوير العتبات المقدسة يضيف المزيد من فرص إيران الاقتصادية، بالإضافة لامتيازات الإعفاء الجمركي على الأسمنت والصلب وسواهما من المواد المستوردة من إيران، التي تمنحها الحكومة العراقية للمشروعات الدينية، وعليه يرتفع مؤشر التبادل التجاري بين البلدين، فخلال العام الماضي، تجاوزت صادرات إيران إلى العراق مبلغ 10 مليارات دولار.

طالما لاحظنا بمسار الإيديولوجيا الإيرانية هو العمل على الشعائر/المظاهر الدينية بشكل أساسي، واستثمارها قدر الإمكان لتزخيم مشروعها السياسي، حسب الكاتب السياسي ومدير تحرير موقع جنوبية، علي الأمين، لذا تراها تولي اهتماما كبيرا بالمقامات الدينية، لا بل تختلق في كثير من الأحيان مقامات بعيدة عن الحقيقة وأقرب للافتعال، كما حدث بأماكن بالمقام المفتعل قرب قلعة بعلبك في لبنان، وفي أماكن عدة بدمشق وحلب وباقي الجغرافية السورية، وهذا يؤكد على أن هذه الأمور مسألة إستراتيجية في المشروع الإيراني.

وبعد إيراده لجدلية الأربعينية الحسينية، والتي يعتبرها مأخوذة أساساً من الطقوس اليهودية والمسيحية ولا علاقة لها بالإسلام والمذهب. يضيف الأمين خلال حديثه لموقع أورينت، إيران تهتم بشدة على تقديم نفسها القائد الأعلى للشيعة في العالم، وهو أمر غير دقيق، لذا تحاول فرض نفسها بشكل واضح خلال هذه الشعائر، كونها عنصر تأثير على الناس العاديين الحاملين أصحاب المشاعر الدينية، وهي فئة موجودة في  كل الأديان، لكن هنا يتم العمل عليهم بشكل منظم، ما أدخل على هذه الشعائر الكثير من الصناعة إن صح التعبير، بعد أن كانت تمارس سابقاً في أطر جغرافية ضيقة كالقرية والمدينة، أو ضمن الذوق الشخصي والطريقة التي يراها الفرد مناسبة له الفردية، وبالتالي أصبحت ضمن منهج متكامل يغطي كل المناطق الشيعية، سواء بالشعار أو خط كتابة أو في طريقة الصورة وشكل اليافطة محل الشعار، وهذه العناوين والرموز جميعها مدروسة وتأتي في إطار حلقة أساسية عامة ورئيسية تديرها إيران.

وإيران على المستوى الداخلي، تعتبر "الثورة الحسينية" أساساً لنهجها الفكري يتضمن دلالاتِ "المقاومة والنضال والصمود"، بل ذهب الخميني لاعتبار "محرم وصفر هما اللذان قد حفظا الإسلام"، وفي ظل تراجع شعبية رجال الدين، من خلال مشاهد إسقاط العمامة عن رؤوس رجال دين في انتفاضة إيران الأخيرة "المرأة الحياة الحرية"، فإن التركيز الإيراني على مسيرة الأربعينية كأيقونة للمد الشيعي والتأييد الشعبي لمبادئ "الثورة الإسلامية" وحكومتها القائمة على مبدأ "ولاية الفقيه"، وخارجياً، "إيران تريد نفوذاً اقتصادياً ودينياً وسياسياً، وأفضل مكان لتحقيق ذلك هو كربلاء والنجف"، وفقاً للنائب العراقي محمد صاحب الدراجي، وعليه، فإن "زيارة الأربعين للعام الحالي هي الأضخم على مدار السنوات السابقة"، حسب محافظ كربلاء، نصيف الخطابي، مبيناً أن "14 مليون زائر دخلوا محافظة كربلاء المقدسة". 

تصدير الثورة

لا ترى إيران نفسها دولة ذات حدود محكومة بالشرعية الدولية، بل شيئاً أشبه بنظام أممي أو خلافة إسلامية، حسب جمال خاشقجي، تصدر فيها أوامر الولي الفقيه من طهران إلى الدول المجاورة عبر ممثليه فيها، الذين أعلنوا ولاءهم المباشر له، في السياسة قبل الفقه، وأقسموا له يمين الطاعة بصرف النظر عن مصلحة أوطانهم، "فالثورة الإسلامية" "يجب أن تصّدر إلى كل أنحاء العالم" وفقاً لخميني، لكن لا يجب فهم ذلك أننا نريد فتح البلدان، "فمعنى تصدير الثورة هو أن تستيقظ كل الشعوب والحكومات".

لتستطيع إيران تمرير ما تأمله سياسياً، والتحرك براحة كاملة في المجال سياسياً، واتخاذها خيارات مختلفة ومتناقضة أحياناً، فهي بحاجة إلى جمهور ثابت، وأفضل وسيلة لخلق هذا الجمهور هي المشاعر الدينية، والادعاء بتمثيل الرموز الدينية والطلب من هذا الجمهور الطاعة الكاملة، بموجب منظومة "ولاية الفقيه" القائمة بأكملها على فكرة طاعة الولي الفقيه هي طاعة الإمام (الأئمة لدى الشيعة) وهي طاعة للرسول وبالتالي طاعة لله، حسب الأمين. ووفقاً لهذا المنطق يجب أن تزيد إيران من الاستثمار في المناسبات الدينية وتضخيم هذه المناسبات وتظهيرها، وبالتالي تلغي كل نقاش موضوعي أو علمي حول القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ما ينتج جهور أعمى.

وبرأيه، كل ديكتاتورية تعمد إلى خلق نوع من "الطوطم"، ومن ثم قيادة الناس من خلاله لتحقيق مكاسب سياسية على قاعدة الولاء الكامل لمشروعها من دون أن تحظى هذه الأفكار السياسية إلى أي نقاش حقيقي وجدي. وعليه، تبرز البروباغندا والشعارات والاستغلال العاطفي، المذهبية والعاطفة الدينية، بشكل كبير، وإيران استفادت بالمعنى المباشر، لكن بالمعنى المستقبلي، فشلت إيران في تقديم أي مشروع له جاذبية إنسانية، وبالتالي تحولت في أحسن الأحوال إلى قوة قومية بالدرجة الأولى، وتستخدم المذهب الشيعي لتحقيق مكاسب مشروعها القومي، لذا ترى الشيعة في كل المناطق سواء في العراق أو سوريا أو لبنان واليمن، تدفع الأثمان الهائلة، فيما تقطف إيران النتائج، كحالة دفع لبنان ثمن افتعال مشكلة من قبل "حزب الله" مع السعودية وفق الحسابات الإيرانية، لتذهب إيران لاحقاً وتوقع اتفاقاً مع السعودية.

وحسب المعهد الدولي للدراسات الإيرانية (رصانة)، لا تتعامل إيران مع النسق السياسي الدولي وفق القوانين والمعايير الدولية، أو حتى المعايير الأخلاقية المذهبية، وجلّ تعاملها يصب بما يحفظ مستقبل هدفها القومي الأكبر، الدولة العالمية، أو أستاذية العالم، ما يجعلها خطرا حقيقيا على دول المنطقة كلها، من خلال عملها على إخضاع المنطقة لدولة الولي الفقيه، مستخدمةً الطقوس الشيعية وسيلة لتثوير الجماعات الشيعة في إيران وخارجها، صانعةً ولاءات عابرة للحدود ومتمرّدة على الأوطان من بعض الجيوب الشيعية الموالية لإيران في الدول الأمّ، موسّعة بذلك من مهِمة "الثورة" بما يتجاوز حدود إيران، بهدف "الكفاح" مع بقية الحركات الإسلامية والشعبية لتمهيد الطريق لتشكيل مجتمع كوني واحد.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات