منذ أن نشر الكاتب والصحفي الأمريكي فينسينت غاديس مقالاً لمجلة " آرغوسي" سنة 1964، شاع مصطلح "مثلث برمودا" ثم مع حلول سبعينات القرن العشرين وثمانيناته بدأ المصطلح بالانتشار على المستوى الإعلامي والفني، بعد نشر كتابين من تأليف تشارلز بيرلتز وريتشارد وينر
مثلث الشيطان أو مثلث برمودا
يشغل سرّ منطقة مثلث برمودا، في بحر"سارجا سو" في المحيط الأطلسي، الناس لسنوات عديدة، وتشكل ميامي وسان خوان (بورتوريكو) وجزر برمودا رؤوس هذا المثلث. ويزعم أنه في هذه المنطقة تختفي باستمرار وبطريقة غير مفهومة وغامضة السفن والطائرات، كما وهناك أيضاً ظواهر أخرى شاذة تحدث في ذات المكان. وبغض النظر أكان ذلك صحيحاً أم لا، فقد أصبح مصطلح "مثلث برمودا" صيغة مجازية يستخدمها الكثير من المفكرين والمحللين السياسيين وغيرهم.
فكما يبتلع مثلث برمودا أو "مثلث الشيطان" السفن والطائرات، فإن في جمهورية الموت والرعب الأسدي البرمودي يختفي كل شي، فلا أمان ولا طمأنينة ولا استقرار، فضلاً عن الحقوق والحريات وآدمية الانسان وكرامته، إذن هو انتفاء للحياة والوجود، بل للإنسان الذي هو عنوان كل ذلك.
فلا يستقيم الكلام عن جمهورية التوحش البرمودي/ الشيطاني الأسدي، ولا يستوفي موضوعه لجهة قهر وهدر وإلغاء إنسانية الإنسان السوري (قيمةً وحقوقاً وكياناً) إلا بالحديث عن واحدة من أخطر أنواع الانتهاكات التي تمارسها دولة العنف والإرهاب الأسدي، و"فرق الموت" التي تأتمر بأمرها. هذه القضية هي ما يعرف بـ "ظاهرة الاختفاء القسري".
ووفقاً للإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، الذي اعتمدته الجمعية العامة في قرارها 47/331 المؤرخ 18 كانون الأول/ ديسمبر 1992 بوصفه مجموعة مبادئ واجبة التطبيق على جميع الدول، فإن الاختفاء القسري يحدث عند " القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغماً عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أي نحو آخر على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتهم أو على أيدي مجموعة منظمة، أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ثم رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين أو عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، ما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون". ويوصف الاختفاء القسري "بأنه جريمة ضد الإنسانية عندما يرتكب ضمن هجوم واسع النطاق أو منهجي على أي مجموعة من السكان المدنيين، ولأسر الضحايا الحق في طلب التعويض، والمطالبة بمعرفة الحقيقة فيما يتصل باختفاء أحبائهم.
وذلك كله بحسب ما نص عليه كل من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي دخل في حيز التنفيذ في 1 تموز/ يوليو 2002، والاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري، التي اعتمدتها الجمعية العامة في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006.
وكانت الشبكة السورية لحقوق الانسان "قد أصدرت تقريرها السنوي الثاني عشر عن الاختفاء القسري في سوريا بمناسبة "اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري". (30 أغسطس2023)، والذي صادف يوم الأربعاء. وقالت فيه إن ما لا يقل عن ( ١١٢٧١٣) شخصاً، بينهم ٣١٠٥ أطفال و ٦٦٩٨ سيدة لا يزالون قيد الاختفاء القسري في سوريا منذ آذار ٢٠١١ حتى آب / ٢٠٢٣ واشتمل التقرير- الذي جاء في ٤٤ صفحة – على كم واسع من حوادث الاختفاء القسري وشهادات لذوي ضحايا.
وقال إن عمليات الاختفاء القسري التي نفذت من قبل أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا شكلت أحد أكثر الانتهاكات تعقيداً ووحشية والتي عانى منها المجتمع السوري على مدى الاثني عشرة عاماً الماضية والتي ترتب عليها سلسلة من الانتهاكات التي تندرج ضمن سياق عمليات اعتقال تعسفي واحتجاز غير مشروع للحرية، وتعذيب بمختلف أنماطه وأبعاده النفسية والجسدية والجنسية، ومحاكمات استثنائية بإجراءات موجزة وسرية، ويفتقد المختفون لكل أشكال الحماية والرقابة الحقوقية والقانونية وتهمل حقوقهم الأساسية داخل مراكز الاحتجاز على نحو مقصود ومتعمد، ويتعرضون لتجربة تعذيب شديدة وإهمال طبي مترافق.
ووفق التقرير فقد شاركت جميع أطراف النزاع في ممارسة الاختفاء القسري كوسيلة لإرهاب المجتمع وخلق الرعب فيه وتعزيز السيطرة. إلا أن النظام السوري، من خلال منظومته الأمنية، اتخذ من هذه الظاهرة أداة فعالة لقمع أي نوع من التطلعات نحو التغيير والحرية والديمقراطية وتفوق على جميع أطراف النزاع..
وهذا ما أشار إليه التقرير من أن قوات النظام السوري لديه ما يقارب ٩٦١٠٣ بينهم ٢٣٢٧ طفلاً و ٢٥٥ سيدة، فيما أسند التقرير مسؤولية إخفاء ٢١٢٦ من بينهم ١٧ طفلاً و ٣٢ سيدة إلى هيئة تحرير الشام. وأضاف أن ٢٩٤٣ شخصاً بينهم ٢٥٦ طفلاً و ٥٦٣ سيدة لا يزالون قيد الاختفاء القسري لدى مختلف فصائل المعارضة المسلحة، و ٢٨٢١ شخصاً بينهم ١٨٦ طفلاً و ١٠٩ سيدات لا يزالون قيد الاختفاء القسري ميليشيا قسد.
هيئة المفقودين
وفي هذا السياق وتحديداً في (١٩ حزيران/ يونيو ٢٠٢٣) حث عدد من خبراء الأمم المتحدة الجمعية العامة على إنشاء هيئة لحقوق الإنسان تعنى بمعالجة مأساة المفقودين والمختفين قسراً في سوريا معالجة جدية.
ولكن وبحسب الشبكة السورية فهناك بعض المخاوف التي تمثل تحدياً حقيقياً لهذه الهيئة الأممية وآلية عملها؛
أولها: عدم وجود دور محدد لها في الإفراج عن المعتقلين تعسفياً.
ثانيها: عدم وجود نص صريح في محاسبة مرتكبي الانتهاكات في سوريا. وآخرها عدم تعاون أطراف الصراع في سوريا معها ما سيعقّد من مهامها في الكشف عن مصير المفقودين.
لن يرتدع هذا النظام الإرهابي الفاشي عن طغيانه وجرائمه بحق الشعب السوري، إذا بقيت المواثيق والعهود الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وما يتعلق منها بـ "ضحايا الاختفاء القسري" غير فاعلة على مستوى ملاحقة ومحاسبة هؤلاء القتلة والمجرمين ممن ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وتقديمهم للعدالة الدولية.
رغم تقصير المجتمع الدولي وتخلّيه عن كل مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية، تجاه ما يعيشه الشعب السوري من انتهاكات لحقوقه وحرياته وكرامته الإنسانية، من " قتل وتشريد واعتقال وإخفاء قسري وتعذيب .... " فلا بد من مواصلة الجهود الحقوقية وملاحقة كل مجرمي الحرب في سورية وفضحهم وتقديمهم للعدالة إن عاجلاً أم آجلاً.
وختاماً: فإن آخر رسالة لا سلكية مشفرة بعثت بها " الرحلة 19" التابعة للبحرية الأمريكية فوق "مثلث برمودا" عام 1945، وكانت الأخيرة والصادمة " لا تبحثوا عنا... يبدوا أن..." لم يستطع طاقم الرحلة أن يكمل الرسالة لأنهم بدؤوا يواجهون الموت والهلاك ...
لكنّا نقول لكل المفقودين والمعتقلين والمختفين قسرياً، سنواصل البحث عنكم ومن أجلكم ولن ننساكم أبداً حتى تأخذ العدالة مجراها، فقضيتكم هي قضية أخلاقية وإنسانية ووطنية بامتياز.
التعليقات (2)