في وداع كريم العراقي: الشاعر الذي طاف العالم ببلده ومات غريباً

في وداع كريم العراقي: الشاعر الذي طاف العالم ببلده ومات غريباً

لعل أكثر ما يؤلم الإنسان حدّ القهر، هي لحظة الفقد، وهذا الفقد "الموت" هو لحظة الحقيقة التي لا بد أن تواجه كل إنسان على وجه هذه الأرض، ولا شكّ أني لم آتِ بجديد حول هذه النقطة، إنما لحظة الحقيقة هي الجرح الذي يحفر في الروح عميقاً حتى يتدفق الكلام على اللسان سيلاً من الألم، خاصة إذا كان هذا الفقد مغموساً بالغربة، فيصبح الفقد فقدين والموت موتين.

الشاعر العراقي الجميل كريم العراقي جرح العراق النازف، ودّعَنا بالأمس الأول من أيلول/ سبتمبر 2023، وسلّم الروح إلى بارئها بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان، ففقدت بذلك الساحة الأدبية العربية عموماً والعراقية خصوصاً صوتاً شعرياً مميزاً وصاحب حضور لافت من خلال قصائد تترع بالحنين الشفاف والصدق العاطفي الذي يُشعر السامع والقارئ أنه يكاد يلمسه بيديه من شدة تأثيره وقوة حضوره الوجداني.

لقد حمل هذا الشاعر الجميل بلده العراق في جوف روحه، ولفّ به المعمورة من بلدٍ إلى بلدٍ ومن ضفة إلى أخرى، فكان جرح العراق النازف وصوته المترع بالحنين وكأنه موسيقا نينوى المنبجسة من الأرض، فاقرأ معي هذين البيتين الرائعين من قصيدة جميلة تتحدث عن الحصار الذي فرضه الأمريكي على العراق بعد حرب 1991، لتدرك مدى شاعرية هذا الرجل الواضحة في عمق وقوة تأثير كلماته على القارئ أو السامع:

تذكّرْ كلّما صلّيت ليلاً

                ملاييناً تلوك الصخر خبزا

على جسر الجراح مشت وتمشي

               وتلبس جلدها وتموت عزا

وُلد الشاعر والكاتب والصحفي كريم عودة العراقي في بغداد شهر شباط/فبراير عام 1955 وهو حاصل على دبلوم علم النفس وموسيقا الأطفال من معهد المعلمين في بغداد، وعمل معلماً في مدارس بغداد لسنوات، ثم مشرفاً متخصصاً في كتابة الأوبريت المدرسي. 

بدأ الكتابة والنشر منذ كان طالباً في المدرسة الابتدائية في مجلات عراقية عديدة منها: مجلة المتفرّج، والراصد، والإذاعة والتلفزيون، وابن البلد، ووعي العمال ومجلة الشباب، وقد تنوّعت اهتمامات شاعرنا رحمه الله، وشملت كتابة الشعر الشعبي والأغنية والأوبريت والمسرحية والمقالة، فضلاً عن اهتمامه بالثقافة والأدب منذ نعومة أظفاره.

ولعل الجانب الأهم في حياة الشاعر كريم العراقي رحمه الله هو نبوغه المبكر في الشعر الشعبي، مما جعله وجهة المطربين العراقيين المشهورين، فكتب الكثير من الأغاني الجميلة لهؤلاء المطربين المشاهير أمثال سعدون جابر وصلاح عبد الغفور وكاظم الساهر وغيرهم الكثير من العراقيين أو الفنانين العرب من البلدان العربية الأخرى، ولعلي أستطيع أن أدّعي أن جيلي كان منغمساً حد الهيام بأغنية "يا أمي يا أم الوفا" التي غناها سعدون جابر بصوته الشجي.

ولم يتوقف نبوغ شاعرنا رحمه الله عند الشعر الشعبي وكتابة الأغاني وحسب، بل تجاوز ذلك إلى الشعر الفصيح، فكتب قصائد لا تقل روعة وتأثيراً عن ذاك، ولعل أكثر ما يميّز كريم العراقي في شعره عموماً والفصيح خصوصاً هو الصدق كما أسلفت، فتشعر وأنت تسمع أو تقرأ له وكأنه يكتب بمداد قلبه وروحه، ولعل الغربة التي فرضتها ظروفه عليه فابتعد عن مرابع طفولته وشبابه، وقد تزامنت هذه الغربة مع مآسٍ عظيمة ومعاناة كبيرة منذ التسعينات من القرن الماضي لبلد عظيم مثل العراق، والتي انتهت باحتلاله من قبل الأمريكان وتسليمه للعدو التاريخي للشعب العراقي إيران، كل ذلك جعل قصيدة كريم العراقي تمج الدم من أفواه حروفها مجاً:

الشمس شمسي والعـراق عراقي

                  ما غيّر الدخلاء من أخلاقي

أنا منذ فجر الأرض ألبس خوذتي

                 ووصية الفقراء فوق نطاقي

قـدري بأنْ كل الحروب تجيـئني

                  مجنونة تسعى لشـدّ وثاقي

وأنا الجـميل السـومري البـابلي

                   كانت يدي قيـثارة العشـاقِ

وتحـالفت كـل العـصور لمقـتلي

                 فأغضتها بتمـاسكي الخـلاقِ

هـربت طيوري حين ضاع أمانها

                    فـكأنـني شجــرٌ بلا أوراقِ

لكـأنّما هـمس العراق بمـسمـعي

             يفنى الأسى وجبين عزك باقي

ويقول أيضاً:

أهلُ العراقِ كؤوسُ الحزنِ مشربُهُم 

             حتّى الغناءُ بكاءٌ إنْ بهِ صدحوا

كـلُّ الـبـلادِ لـهـا في حـزنِـهـا فُـسَـحٌ 

               إلّا العراقَ فما في حزنِهِ فُسَحُ

ولعلي كمتابع للشأن الثقافي والشعري بالخصوص، وأحد المعجبين بشاعرنا رحمه الله، أجد نفسي مرغماً هنا على أن أكون صريحاً، فأقول إنني على الرغم من إعجابي الشديد بشعر كريم العراقي الفصيح، إلا أني آخذ عليه عدم اهتمامه بجانب الوزن الشعري في بعض قصائده، فتجد أنه غيّر هنا أو زاد هنا أو أشبع حرفاً لا يشبع لكي يستقيم الوزن، وهذا يؤخذ عليه، ويعدّ مثلبة في تجربته الشعرية، إذ كان عليه مراجعة ما يكتب وتدقيقه وتصحيحه حتى يخرج بأبهى حلة، فاقرأ له مثلاً هذين البيتين اللذين لا يخفى فيهما على صاحب الاختصاص أن الشاعر كسر الوزن في الشطر الأول منهما باستخدامه تفعيلة ليست من البحر البسيط الذي كتب عليه بيتيه هذين وقد وضعت لوناً مغايراً مكان الخلل:

بَيتٌ مِنَ الشِّعرِ أذهَلنيْ بٍروعتِهِ         

                 تَوسّـدَ القَلبَ مُذْ أنْ خَطَّهُ القَلَمُ

أضْحىٰ شِعاريْ وَحَفَّـزَني لأُكرِمَهُ       

                  عِشْرينَ بيْتاً لها مِنْ مِثلهِ حِكَمُ

ولعل ذلك لا يلغي شاعرية الشاعر وقدرته الفائقة على التأثير في قرّائه، فرغم هذه الهنات إلا أنه يملك نفساً شعرياً متميزاً، وهذا واضح من حجم النعوات التي نعته، خاصة أنها كانت في كثير منها من كتاب وشعراء لهم مكانتهم في الساحة الأدبية، وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدل بوضوح على مكانة الشاعر كريم العراقي في نفوس محبيه وقرّائه.

رحم الله الشاعر الجميل كريم العراقي رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

التعليقات (4)

    صرعتونا

    ·منذ 7 أشهر 3 أسابيع
    الله يرحمو بس فهمنا صرعتونا فيه…اي نص العالم بحياتا ما سمعت بإسمو ….

    عبدالسلام عايش

    ·منذ 7 أشهر 3 أسابيع
    رحمه الله ويكفي كلمات يا أمي يا ام الوفا، ويبقى أفضل من ذلك الذي صدع رؤوسنا بظلال الياسمين ،وما ادري ان للياسمين ظلال يستظل بها الا النمل ظلال النخل ،ظلال الزيتون ،ظلال الجوز اما ظلال الياسمين هذه مصيبة
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات