بحسب صحيفة " تركيا " المحسوبة على حزب العدالة والتنمية الحاكم فإن تركيا تعتزم تعيين " حاكم " واحد " للتنسيق " مع الأدوات المحلية، والتي يفترض أنه منوط بها إدارة شؤون الشمال السوري بعد ثبوت فشل التجربة السابقة عندما أنيط هذا الأمر بسبعة ولاة أتراك كمنسقين لشؤون مناطق الشمال السوري الخاضع لسلطة الميليشيات الموالية لأنقرة بسبب تضارب وارتباك القرارات وأثر ذلك على واقع الحال المعاش في تلك المناطق التي يُزعَم أنها " آمنة "!.
" الحكومة المؤقتة " كحالها دائماً غائبة عن المشهد بكليته، حتى أنه لم يرد ذكر لها قط فيما نشرته الصحيفة التركية ولا حتى طوال سني التجربة السابقة التي تعترف تركيا الآن بثبوت فشلها، ما يطرح سؤالاً عن جدوى وجودها أصلاً وغايته؟!! .
ربما يكون من المبكر إطلاق الأحكام على مدى إمكانية نجاح التجربة الجديدة المزمع إنفاذها، ولكني سأغامر بالقول إن كل المؤشرات والمعطيات تمنحنا إمكانية الاستنتاج بأن فشلاً جديداً ينتظر تلك التجربة لأسباب عدة، يأتي في مقدمتها بطبيعة الحال مسألة الحوكمة وتمكين البنى المجتمعية المحلية من إنتاج أدواتها للحكم المحلي، ذلك أنه من المعروف والمسلّم به أن كل المجالس المحلية القائمة اليوم لم تكن قط انعكاساً لإرادة الناس وخياراتهم، وإنما هي خلاصة توليفة لتقاطع مصالح أدوات القوة والسيطرة المتحكّمة على الأرض بقوة السلاح والترهيب الأمني، وبالتالي فإن ما يتوقع صدوره عنها من قرارات أو ما تتخذه من إجراءات هو بالضرورة يعبّر عن مصالح تلك الأدوات وليس عن مصالح العامة الذين يفترض أن يكونوا مصدر مشروعيتها.
والمسألة الثانية التي يمكن من خلالها رؤية فشل تلك التجربة المزمع تطبيقها هي سطوة سلاح الميليشيات وأدواتها القمعية والأمنية، ومن الطبيعي جداً بل والمسلّم به أن سطوة السلاح لا تنتج مجتمعات آمنة، ولا تصلح لإنتاج بيئة صالحة للتطور أو خلق فرص للنجاح، لأن السلاح يدخل المجتمع في دوامة التماس الأمن الشخصي المرتجى، ويدفع الناس للابتعاد عن الشأن العام واللجوء إلى كهوف العزلة التماساً للسلامة الشخصية خصوصاً مع غياب القانون وأطر العدالة المأمولة التي كانت واحداً من المطالب التي رفعها المتظاهرون ضد الأسد قبل عقد من الزمن.
والمسألة الثالثة هي قضية العلاقة مع تركيا وطبيعة ومحتوى تلك العلاقة والتي ما تزال تركيا تتعامل معها ومع تلك المناطق وسكانها كملحقية لها تخدم سياساتها ومصالحها فقط أكثر مما تخدم مصالح السوريين في تلك المناطق .
صحيح أننا لا نعيش وهم العلاقة الندّية بين مناطق الشمال وتركيا الدولة، لكن ذلك أيضاً لا يدفعنا لقبول أن تكون تلك المناطق - ومن يفترض أن يتولى إدارتها بقرار حر من سكانها المحليين - مجرد أدوات محلية لإنفاذ سياسات أنقرة وتحقيق مصالحها الصرفة حتى لو تعارضت في بعض المحطات والمفاصل مع مصالحنا كسوريين كما هو واقع الحال الآن.
وبالتالي فإن أولى مفاتيح النجاح في تحويل مناطق الشمال لمناطق آمنة حقاً، تبدأ بإعادة صياغة العلاقة بطريقة مختلفة تماماً عما كانت عليه بين الحكومة التركية وبمن سينيط السكان المحليون أمر إدارة شؤونهم إليه بقرارهم الحر عبر صناديق الانتخاب بعيداً عن المؤثرات الميليشيوية المحلية التي يفترض أن تغيب عن المشهد السياسي والإداري والخدمي في تلك المناطق، وبعيداً أيضاً عن الإملاء التركي نفسه، الأمر الذي من شأنه أن ينشىء حقاً تحالفاً يقوم على التعاون وخدمة المصالح المشتركة للجانبين.
إن تسمية " حاكم " تركي واحد لإدارة الشأن السوري في الشمال لا يمنح السوريين شعوراً باستحسان القرار رغم أنه يمثل مرجعية واحدة تزيل آثار الارتباك السابق في القرارات، لأنه ما يزال يؤشر لعدم مغادرة أنقرة لسياسة الاستتباع ، ولا يتيح أي فرصة لخدمة المصالح المشتركة بقدر ما يشي بفرض سياسة الامتثال لقرار ذلك الحاكم الذي هو بالضرورة يعبّر عن قرارات وسياسات ومصالح حكومته لا عن مصالح السوريين أو بمعنى آخر سيكون ذلك الحاكم مندوباً سامياً للدولة التركية مفوّضاً بإدارة شؤون الشمال السوري بما يحقق المصالح العليا لدولته بطبيعة الحال.
خلاصة القول إنه إذا أرادت تركيا حقاً أن تنجح تجربة إدارة مناطق شمال غرب سوريا هذه المرة، فعليها أن تعمل أولاً على إدماج الميليشيات ضمن بنية عسكرية تراتبية حقيقية وإقصاء قادتها الحاليين عن المشهد بكليته ومساءلتهم عما ارتكبوه من جرائم بحق السكان المحليين، ومصادرة الأموال التي نهبوها عنوة من الناس، وتلك أولى البوابات التي تتيح النجاح لخلق البيئة الآمنة التي تسعى لخلقها في تلك المناطق كمدخل للارتقاء بحياة سكانها الحاليين وتشجيع اللاجئين السوريين في تركيا على العودة إليها وهي الغاية المبتغاة للدولة التركية..
وعليها ثانياً أن تتيح الخيار للناس بحرية اختيار من يمثلهم في المجالس المحلية التي ستكون أدوات حكم محلي في تلك المناطق ينتخبون بدورهم حكومة محلية بديلة عن " الحكومة المؤقتة " المخصية المنتهية الصلاحية.
وعليها ثالثاً تشجيع المؤسسة القضائية على ممارسة دورها بنزاهة وحياد وشرف لتكريس مبدأ سيادة القانون وامتثال الناس له، وتوفير المناخ الحر لممارسة منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية دورها دون ترهيب، فذلك وحده ما يؤسس لبيئة آمنة ليس فقط لعيش الناس، وإنما لمعاشهم أيضاً لأنه يحفّز أصحاب الأموال على إطلاق المشاريع الإنتاجية وهم يشعرون بالطمأنينة على أموالهم واستثماراتهم وهو ما يؤسس أيضاً لعودة طوعية وآمنة حقاً للكثير من اللاجئين.
فهل تتفهم تركيا هذه التفاصيل وتعمل على تطبيق خطة طريق تأخذ مصالح الطرفين بالاعتبار فتستعيد من خلال حسن التطبيق القوة الناعمة السورية التي فقدتها بسبب أحادية الرؤية والمصالح وسوء تطبيق السياسات؟؟؟ ..
إذاً عليها بداية أن تعيّن منسقاً تركياً لا حاكماً ولا مندوباً سامياً عندها يمكن إعمال المثل القائل "الرسالة تُقرأ من عنوانها ".
التعليقات (0)