حراك الداخل والمبادرة العربية بين طوق النجاة وحبل المشنقة

حراك الداخل والمبادرة العربية بين طوق النجاة وحبل المشنقة

هكذا هي الحروب دائماً، فما إن تتوقف الأعمال الحربية على جبهات القتال لا تلبث القضايا والاستحقاقات الداخلية المؤجّلة أن تعرض نفسها على شكل فوضى متمثلة في حالات متناثرة، إلا أنها في واقع الأمر غالباً ما تكون تعبيراً عن حالة عامة وبيئة مضطربة لا تنذر بخير.

 بينما كان مؤيدو نظام أسد يعتقدون أنهم تجاوزوا مرحلة الخطر وبدؤوا التغنّي بالنصر؛ كان رموز السلطة تحت تأثير هواجسهم المتنامية مترددين في إطلاق العنان لمظاهر البهجة والسرور – باستثناء حالات نادرة عند حدوث الزلزال مثلاً – فيما يبدو أنه استشعار للخطر الداهم الذي يتجهّمهم. فهم يعرفون ما لا يعرفه الجمهور.

كان السوريون الذين آثروا البقاء في المناطق الخاضعة لنفوذ نظام أسد على موعد مع قطف ثمار النصر والاستمتاع برغد العيش بعد أن وضعت الحرب أوزارها، لكنهم اكتشفوا – بعد صبر – أن الوعود التي أطلقها نظام أسد لم تكن سوى إشاعات حالمة كان الغرض منها تحشيد الجبهة الداخلية، وأنهم مطالبون بمقاومة الفقر والحرمان إلى أجل غير مسمى.

ما زاد في قهر السوريين وغيظهم أن نظام أسد رفض التجاوب مع المبادرة العربية التي نظر إليها معظم السوريين على أنها بمثابة طوق نجاة، وهم وجدوا في ذلك الامتناع نسفاً للخطاب الذي صدّرته السلطات طيلة السنوات المنصرمة بأن حربهم على الشعب السوري هي حرب على الإرهاب وحرب من أجل الحفاظ على الدولة السورية، فالحرب – حسب خطاب نظام أسد – حرب لإسقاط الدولة السورية وليست لإسقاط النظام، ليتبين أنها حرب من أجل الحفاظ على كرسي الحكم. وبلغة أدق، لم يعد السوريون يقبلون بهذا الخطاب وأصبحوا يرفضون ترديده؛ لأنهم بالأصل كانوا يعلمون أنها معركة من أجل كرسي الحكم.

إن من يرفض المساعدات مقابل بعض الإصلاحات السياسية ويسمي المبادرة العربية بالفخ أو الكمين؛ إنما هو يعلن بكل صراحة أن الإصلاحات المطلوبة قد تشكل خطراً على ديمومة كرسي الحكم الذي يراد له أن يستمر للأبد، وهذا ما قرأه أغلب من نسمّيهم بالموالين بأنه استهتار بآلامهم ومعاناتهم المتفاقمة، ودفع بالبعض لأن يخرج عن صمته معبّراً عن احتجاجه ورفضه لتلك الأوضاع، ويستطيع المرء أن يتلمّس في ثنايا الخطاب الذي صدر عن بعض تلك الشخصيات الممتعضة ما يشير إلى علاقة ذلك النزق بامتناع نظام أسد عن التجاوب مع المطالب التي تضمّنتها المبادرة العربية.

تتعدّد الأسباب التي خلقت هذه البيئة المضطربة، وتختلف العوامل التي خلقت هذا الامتعاض بين شريحة وأخرى، لكن الفقر الذي دفع الكثيرين إلى حافة الجوع والعوز يُعتبر عاملاً مشتركاً بين كل تلك الشرائح والفئات. وهذا ما دفع بالبعض – متسرّعاً – لإطلاق تسمية "ثورة الجياع" على كل حراك يصدر عن جمهور من نسمّيهم بالموالين جزافاً.

بنظرة أكثر حصافة واتزاناً يمكن تقسيم جمهور من يسمّون بالموالين إلى ثلاث فئات هم: فئة الخائفين، وهم الذين يعتقدون أن نظام أسد على درجة عالية من الإجرام والعمالة بحيث لا يمكن أن يُهزم، وهؤلاء هم الأغلبية الساحقة. وفئة المتورّطين والمنتفعين وبعض الطائفيين، وهؤلاء هم المؤيدون الحقيقيون الذين قد لا يتجاوز عددهم مئة ألف، أو مئة ألف ونيف. وفئة المعارضين الذين لم تسنح لهم الظروف - لأسباب متعددة يطول شرحها - أن يلتحقوا بركاب الثورة. وهذه الفئة الأخيرة بقي صوتها خافتاً لا صدى له، ووجهة نظرها لا تجد لها نصيراً.

إن وجهات النظر، أو لنسمّها الأفكار تخضع بصعودها وهبوطها لمجموعة معقّدة ومتشابكة من الأسباب والشروط والظروف، يتداخل فيها الذاتي والموضوعي، والداخلي والخارجي، والاقتصادي والثقافي. فهي ثمرة مجموعة مركّبة من القوى والبواعث المختلفة في طبيعتها، المتفاوتة في درجة تأثيرها، المتشكلة بظروف المكان والزمان. من هنا يمكن القول: إن تردي الأوضاع الاقتصادية مع تلاشي بارقة الأمل التي لاحت في الأفق مع طرح المبادرة العربية؛ خلق بيئة مناسبة لارتفاع صوت الفئة الثالثة ورجحان وجهة نظرها القائلة: إن الحل لكل مشاكل سوريا يتمثل برحيل هذا النظام.

لنأخذ الحراك الثوري في مدينة السويداء مثلاً؛ فثوار السويداء وبعض رموزها كانوا من السبّاقين للانخراط بالثورة منذ بداياتها، إلا أن هؤلاء لم يتمكنوا من الاستمرار على نفس الوتيرة نتيجة الضغوط التي مورست عليهم من قبل التيار المحافظ الذي كان أكثر قوة ونفوذاً، وكانت وجهة نظره أكثر رواجاً. أما اليوم، ونتيجة لتغير الشروط والظروف بات التيار الثوري أكثر قوة وحضوراً، بل إن كثيراً من رموز التيار المحافظ بدؤوا ينحازون لهذا التيار الثوري لأن المتغيرات جعلت وجهة نظرهم أكثر شعبية وقبولاً لدى الشارع.

رغم أن نظام أسد يتجنب الحديث عن العقوبات الغربية ويحاول التقليل من شأنها لكيلا يربط المواطن بينها وبين بقائه، إلا أن أغلب السوريين على اختلاف انتماءاتهم باتوا يؤمنون بالمعادلة التالية: تزول العقوبات الاقتصادية ويُرفع الحظر عن المساعدات وإعادة الإعمار وتُحلّ المسألة السورية عندما يلتزم النظام بالحل السياسي. وجاءت المبادرة العربية لتجعل أنصار هذه المعادلة بازدياد مطرد، فهل ينصاع نظام أسد صاغراً لشروط هذه المبادرة نتيجة لضغوط الداخل والخارج؟ أم إنه سيبقى ينظر إلى الثبات على موقفه على أنه أحد مقومات قدرته الذي لا يمكن الاستغناء عنه حتى لو استدعى الأمر أن يبطش وينكّل بحاضنته؟ أم إن لديه خياراً ثالثاً؟

المشكلة الكبرى أنه بينما ينظر كثير من السوريين للمبادرة العربية على أنها طوق نجاة، ينظر إليها نظام أسد على أنها حبل مشنقة. وعليه، فالمستقبل مفتوح على المجهول.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات