بعد حوالي شهرين من اللقاء الذي أجرته أورينت نت مع المسن الأمني أرتين ككج أدوريان (87 عاماً) وقريبته الدكتورة سيرون جنلكريان (72 عاماً) واللذين يعيشان معاً في مدينة جرابلس بريف حلب مسقط رأسهما، عادت أورينت لتلقي أرتين ثانيةً ولكن هذه المرة وحيداً، حيث فقد من كانت تسانده فيما بقي من رحلته الشاقة بهذه الحياة.
أرتين تاه في الزمان وبؤس المكان الذي يسكنه بعد وفاة قريبته، وقبلها تخلى عنه جميع أقاربه من الطائفة الأرمنية وسافروا خارج البلد، ولحقت بهم زوجته مع أبنائه الستة عام 1982، في حين بقي أرتين مع والده المريض الذي كان يعيش معه ومات عام 1984 ودفن بجرابلس.
موت رفيقة سكنه سيرين جعله حزيناً، فقررنا مواساته، وعند وصولنا كانت علامات الحزن على فراقها بادية على ملامح وجهه، بادرنا قائلاً وهو جالس كعادته فوق سريره وبجانبه مروحة: لا أعلم كيف ستكون الحياة بدونها، هي رفيقتي على مدى ستة عشر عاماً، يسألوني كيف هو البيت في غيابها فأجيبهم: أنني بانتظار اللحاق بها.
"أبو يعقوب" كما يحب أن نناديه أوضح أنها دُفنت بجرابلس ولكنه لم يستطع توديعها والوقوف على قبرها نتيجة كسر في قدمه وتدهور صحته، وعزاؤه الوحيد كما يقول: إنها رحلت بصمت دون أن تتعذب، فقد اتصلت بالدفاع المدني بجرابلس لإيصالها للمشفى وبعد نصف ساعة فارقت الحياة بجلطة دماغية، وتكفل بعض أبناء مدينة جرابلس بغسلها ودفنها.
ألم وفراق ووحدة
وذكر أرتين أنه يعيش في هذه الأيام لحظات من الألم والفراق والوحدة، مشيراً إلى أن سيرون التي كانت مختصة في الطب البديل والتداوي بالأعشاب، جاءت لمدينة جرابلس قبل ستة عشر عاماً قادمة من محافظة حلب، ولأنها كانت تسكن لوحدها ذهب مع عدد من أصدقائه لمنزلها وطلب منها العيش معه بمنزله، وتعهّد أنه سيعاملها مثل أخته ولا ينوي الزواج منها أو القرب منها، ومنحها غرفة خاصة بها تمارس بها علاجها بطب الأعشاب.
ولفت إلى أنها كانت تعد له الطعام والشراب وتقوم بتنظيف البيت، وكانت تناديه جدي كما يقول، مؤكداً أنه ابن جرابلس التي أحبّها ولن يغادرها رغم وحدته، وقد أوصى أصحابه بمكان دفنه فيها.
وعن ذكرياته مع سيرون قال: كنت أهزم وحدتي معها بالحديث باللغة الأرمنية، عن أهلنا وعائلاتنا الذين رحلوا من جرابلس لحلب ومن ثم لبلاد بعيدة، تاركين خلفهم بقايا ذكرياتهم معلقة على جدران بيوتهم التي ما زال الكثير منها صامداً وأصبح ملكاً لمن اشتراها من أهل البلد، ويضيف: بدأت بتوزيع ملابس سيرون وحاجياتها التي كانت تستعملها على الفقراء والمعوزين، وسوف أبيع برادها الخاص والذي لا أحتاجه وكذلك سأنفق ثمنه على المحتاجين.
تزوجت سيرون بحلب ورزقت ببنت وحيدة ومن ثم تطلقت وذهبت إلى لبنان وبعدها مصر ثم عادت وحيدة لمسقط رأسها بجرابلس عام 2009، احتواها أرتين بمسكنه الذي كان يعيش به لوحده.
مشوار مليء بالذكريات
أرتين مهنته الخياط وهو يعشقها ويتقنها لدرجة كبيرة، ومن يشاهده جالساً على سريره بثيابه البالية يدرك قسوة السنون التي قضاها في حياته قبل أن ينطق لسانه بحرف، جلده البرونزي من قلة الاستحمام، وسنين عمره 87 عاماً حفرت خطوطها ولمساتها على مُحيّاه، تروي قصة رجل عاش وحيداً، وتتحدث عن حجم هذا القهر الذي كابده، وعن ذاك الفقر والجوع الذي ظل رفيقه على مدى أيام حياته، فلا أسرة تحتضنه، ولا عائلة تشاركه حزنه وفرحه، ولم يتواصل مع أسرته منذ 12 عاماً.
الحديث معه لم يعد يثير سوى أحزانه، وهو يعيش اليوم معركة الحياة بأقدام مهزوزة ونفس متعبة، بعد أن طاح تاج الصحة من فوق رأسه، يحلم بقريب وصديق يطرق بابه المفتوح دائماً، يتذكر ماضيه من خلال ألبوم صوره ودفتر عائلته.
يستذكر الكثير من صور الماضي وتحديداً أيام الشباب التي عاشها بمدينة جرابلس خاصة عندما يرجع إلى أوراقه القديمة، يتصفح ألبوم الصور الذي يجمع بين طياته صوراً قديمة له ولعائلته وسيرون التي فارقته تحمل في كل صورة مناسبة وحدث له تأثير وذكرى خاصة له في حياته، ولديه كيس يحتوي على هويته الشخصية ودفتر عائلته مدون به اسم زوجته "اليس بابوجيان"، وكذلك أسماء أولاده وصورهم، ومع كل صورة يظهرها لأولاده يقبلها ويذكر اسمه بحسرة وحزن.
يعرف أهل جرابلس جميعاً ويعد أسماء العائلات بلغته العربية المكسرة، ومن تبقى من أصدقائه على قيد الحياة، يجيد اللغة التركية وكذلك الفرنسية.
أمنية أخيرة
عند السؤال عن أمنيته الأخيرة، أجاب: أتمنى أن أسمع صوت زمور سيارة ساكو، وعرفنا منه أن ساكو أحد أبناء طائفته الأرمنية كان الوحيد في خمسينيات القرن الماضي يمتلك سيارة تنقل الركاب من جرابلس لمدينة حلب، وكان أرتين يحلم أن يعود ساكو لجرابلس حاملاً بسيارته ما تبقى من عائلته لعله يراهم قبل أن يرحل وحيداً.
التعليقات (6)