لا مناص من تلقي الرصاص حتى وإن كنا على بعد مسافة أمان من الكارثة بمختلف وجوهها. أما أن نجيّر صدورنا بلغة شاعرية لنتلقى ذلك الرصاص، فهذا ما عمل عليه الشاعر والكاتب السوري "نورس علي" في روايته "موت وسكر" الصادرة مؤخراً عن دار "موزاييك" للدراسات والنشر.
حيث أعد العدة لخوض معترك الألم السوري، على الرغم من بعده عن المكان والزمان، وعدم إيضاحه للبيئة التي تدور فيها أحداث روايته، وتواريه خلف مجازات كثيرة.
نورس في البدء، امتلك أدوات الشاعر والقاص، ودخل حاملاً إياها إلى عالم الرواية، ليبتدع لوحات مسرحية غاية في الرمزية، وربما لذلك يحتاج قارئ "موت وسكر" لمفاتيح عدة كي يلج أبواب الرواية، فهي بالإضافة إلى خروجها عن السائد، حملت أيضاً كمّاً من الحكمة كما يظهر فيها، وكأن الكاتب أراد مزج الأنواع الأدبية في خلطة متميزة، يبدي من خلالها وجهات نظره في أمور حياتية تخص كل إنسان، على الرغم من أنني كسوريّة، قد أسقطت كل ما سبق بشكل لا إرادي عليّ وعلى وطني. وهو بذلك استخدم أسلوباً نقدياً قديماً، بعيداً عن المباشرة، وقريباً من ناظره أو قارئه.
"كم أشتاقُ للألم، الألم الذي يلصقني على جبين الحياة.. كم أشتاقُ إليك، وأتمنّى لو أنّني رصاصةٌ غارقةٌ في بركةٍ من المياه.. أو كلمةٌ تستطيع أن تحتجز معناكِ إلى الأبد."
يبتدأ الكاتب سرديته بظلال تسحب القارئ إلى الشجرة الأم، فقط علينا أن نثق بتلك الظلال التي تأخذنا في البدء إلى شخص يعيش في سكن شبابي وبأحداث يومية عادية خالية من أي مطبات، دراما خالصة، توقفنا في صف هذا الشاب الذي يتكلم عنه الكاتب أو يتكلم عن نفسه، ثم نجد أنفسنا في زنزانة ضيقة وفي عالم مبهم تُمارس فيه الفظاعات على سجناء، وقد تعمد الكاتب هذا الإبهام وهو أداة قصصية تستخدم في الغالب، إبهام يجعلنا كقراء مشدودين نحو العمل لنعرف المزيد والمزيد...
"أقطن الآنَ في بناءٍ يعودُ تاريخُ بنائهِ إلى العصر الجوراسي المتأخّر، وعلى سبيل الدقّة تمّ وضع حجر الأساس من قِبل أحد راكبي الديناصورات الشجعان، حتّى إنّني ما زلت أرى بعض أسنانه عالقةً بين أخشاب الأرضيّة المتشقّقة!"
وكعودة إلى استخدام الكاتب لأسلوب نقدي قديم، فلم يختر "نورس" فقط أن يحكي سيرة السجين القابع تحت سطوة الجلاد، بل ذهب إلى عالم كائنات بسيطة تشارك السجين معاناته "الصراصير" حيث أنسن عالم هذه الكائنات، وجعلها تروي أحداث الظلم على ألسنتها، ومن المؤكد تعيدنا هذه العملية إلى رواية "مزرعة الحيوان" للكاتب جورج أورويل، ومن المؤكد أيضاً، ليس في سيناريوهات "نورس" تقليد لذاك العمل، بل على العكس، اختار عالماً موازياً وزاوية فريدة قلما يستطيع غيره ابتداعها، عالم فيه الظالم والمظلوم، وفيه الحاكم والمحكوم، وفيه خط سردي حياتي يوازي الحقيقة بشكل كامل ويتماهى معها ويكملها.
"بدت علامات الامتعاض واضحة على وجه الزعيم، فراح جميع الحضور يحدِّقون باشمئزازٍ بالصرصار الجاهل، كيف يجرؤُ على طرحِ سؤالٍ سخيفٍ كذلك! هل يعتقدُ بطريقةٍ ما أنَّ لديه من الحكمة وعمق البصيرة ما يخوِّلهُ التشكيكَ بحكمة القائدِ شارب!! ولكن قبيلَ أن ينفجر شارب في وجه تابعه كالبركان، قاطعت الاجتماع فجأةً هزَّة أرضيّةٌ عظيمة، فتناثرت المجموعة في رعبٍ هستيري، حتَّى أنَّ كلّ واحد منهم هرب في اتجاهٍ لا يلوي على شيء، ناسياً أهله ورفاقه وراءَه."
وفي خطوات متسعة، يعود الراوي إلى الإنسان في سرديته، ثم يبدل حركته نحو الوراء، بخطين سرديّين غير متوازيين ولا متقاطعين مطلقاً، حتى إن القارئ الذي يصل لمنتصف العمل، أو أكثر، يظن أنه أمام عدد من القصص غير المشتبكة مع بعضها البعض.
وبينما يتنقل القارئ بين خطي السرد، يلاحظ شيئاً فشيئاً، وجوده ضمن الأحداث، فعلى الرغم من التورية التي تقصّدها الكاتب، سنكتشف أن ما يريد قوله هي قصصنا، حياتنا في ظل قمع السجان، وفي دربنا نحو الخلاص، والوصول إلى الأمان، فعالم الصراصير هو في الواقع عالمنا المحكوم بالقدر الذي يعدّه العلي الأعلى، والزنزانة هي وطننا الذي نحاول الهروب منه، والسجان هو حاكمنا الجائر، أما فيما يخص العالم الحقيقي فهو من دون شك يخصنا نحن فقط، الباحثون عن الهوية وخلاصنا.
وربما، مما أراده الكاتب أيضاً، أن يكون عمله هذا موجهاً نحو فئة بعينها، فئة تستطيع فك شيفرات الرواية. وربما، باختياره لهذه اللغة والتفاصيل، أراد التميز فقط. وربما ما امتلك من أدوات هي من فرضت عليه الكتابة بهذا الأسلوب الذي أعتبره شيقاً وفريداً، وفي كل الأحوال والمقاصد، يعدّ نجاحاً في إيصال ما يراد إيصاله.
"تفقّدتُ هاتفي المحمول من جديد، أوجعَ ضوءُ شاشته عَينَي..
الساعةُ الثالثةُ والرُّبع صباحاً.
ولكن.. مهلاً.. متى ستصلُ بذلتي الحمراءُ الجديدة؟!
بذلتي الحمراءُ الفضفاضة، المزيّنة بأزرارٍ خضراء في المنتصف، هل هي بذلةُ بطلٍ خارقٍ أم مهرِّج؟!
ما زلتُ لا أعلمُ حتّى هذه اللحظة."
قد تعدّ رواية "موت وسكر" في أحد أوجهها رواية خيالية، وهذا ما زاد قيمتها الجمالية، لكن المتجوّل في فصولها، سيرى أنه لم يبرح عالمه، حيث الحب، العلاقات الإنسانية، السلوك البشري إزاء الأحداث العظيمة، ولحظات معاشة عادية، عوالم سوداوية، وأحداث ليست بعيدة عن الواقع، بل تجثم في وسطه، ونبرة سياسية غير مباشرة، ووقوف في صف الإنسان المظلوم حيثما كان. وأخيراً خوض بديع في الفن، هكذا تتصف "موت وسكر" إلى أن يزيح الكاتب الستار عن كل الرمزية التي خاض فيها.
"موت وسكر": رواية صادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر، وقد جاءت في 134 صفحة من القطع المتوسط.
"نورس علي": كاتب سوري من مواليد دمشق عام 1992. يحمل إجازة جامعية في الترجمة، ودبلوم عالي في إدارة المنشآت السياحية. صدرت له رواية: (وكان عرشه على الماء) والتي فازت بالمرتبة الأولى لجائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2019. وله عدد من القصائد المنشورة في منصات ودوريات عربية.
التعليقات (0)