لقد فُجع المجتمع الدرزي كما فُجع العربُ عموماً، بالفكر القومي الذي عبّرت عنه الأحزاب العقائدية بصورة راديكالية قاسية، فكان العسكر من أهم الأدوات التي اهتدت إليها لبلوغ ذلك، فأخذوا يستحضرون الماضي على طريقتهم الخاصة، كردّ فعل على حاضرهم البائس، وتم التعامل مع الماضي كأنه مستمر لا ينقطع.
وفي المجتمع الدرزي يتم استحضار الماضي عبر تضافر عاملين وهما العروبة والنزعة الطائفية الخاصة، ولما كان الحاضر مفلساً نفتقد فيه كجماهير حرية التعبير وحيادية النقد، ومع تسويق القومية المهزومة بقيادة البعث، لانتصارات مزعومة كان لا بدّ أن نصنع الاستمضاء كطريقة خاصة.
هنا لجأ أبناء الطائفة لصنع أدلوجة لها وعيها الخاص بالتاريخ، وهذا يتناقض تماماً مع معرفة التاريخ، ولما كان المخيال الجمعي مدججاً بالشعر والروايات والسرديات، تمتزج فيه بعض الحقائق مع أكاذيب كبرى، أتاحت شعوراً عاماً لدى الطائفة، وكأن ذلك بمثابة أحداث تاريخية حقيقية، وكأنه فعلاً أنتج هذا التاريخ، ويصبح الأبطال الرموز في مكانة محصّنة لا يستوي معها النقد العقلي والتاريخ الأكاديمي، وهنا يصبح الرمز قادراً أن يمسّ تماماً الشعور الجمعي، ويصبح هو روح الأصالة والثقافة معاً، ويظهر هنا أن هذا الفهم للتاريخ بهذه الصورة يعطيه صفة المعطى الناجز، وعلينا أن نرثه ونورثه، ويبدو أن صناعة الرمز تمت بفعل المخيال الجمعي، وتلك السرديات التي منحته مصداقية وديمومة، وتحديداً يظهر شقاء هذا المجتمع في اختراع أبطال ورموز، وهذا بذاته إلغاء للحرية والموضوعية، ولا مناصَ من قولنا إن هذا المجتمع مأزوم إلى حد النكوص، واختراع ماضٍ لعل وعسى أن يقدم أجوبة وحلول.
ولما كان مثالنا المجتمع الدرزي صاحب الأدلوجة المغلقة في بنيتها والتي تعني ثقافة مستمرة وهوية وانتماء موصدين، فإن ذلك يعني حتمية الخروج من التاريخ والجغرافيا كليهما، صحيح أن باقي مكونات المجتمع العربي تولي أهمية للتاريخ والتراث، غير أن ثمة مغالاة لدى الدروز في إلباس ثوب القداسة للتاريخ والتراث، ولم يظهر بعد في هذا المجتمع إلا نخب نادرة تعرف كيف توظف الماضي نوعاً وكيفاً، ولا تعاني العصاب تجاه الحداثة، والجدير ذكره أن نكران الحداثة يصل حد التهمة بمعاييرها وأخلاقها، ويبدو الطريق شاقاً جداً لخلق توليف يؤمن بالتعامل المعرفي مع التاريخ.
إن عقلية قبول الثقافة كبناء وعمارة يعني الحضور المستمر للتذاوت والتثاقف، وما الهوية المجردة إلا مجموع النحن، وهذا الذي يعطيها طبيعة انفتاحية، وهكذا لا بد من تغيير يطال الأدلوجة نفسها، عبر مقاومة الاستبداد الذي يوظف الأديولوجيا كأداة للتحكم بالوعي والحريات، والتقليد ما هو إلا أنشوطة أو مقتل، وبديلها هو ميثاق اجتماعي جديد يضمن الانتماء لوطن عبر الانتقال من طائفة وشبه مجتمع إلى المجتمع المتنوع المتعدد والمتسع.
التعليقات (6)