سوريا: جنة غناء تارة وبلد المآسي الإنسانية تارة أخرى

سوريا: جنة غناء تارة وبلد المآسي الإنسانية تارة أخرى

الدعاية كما يُعرّفها الدكتور حامد ربيع: "عملية الإثارة النفسية بقصد الوصول إلى تلاعب معين في المنطق، فإذا بنا إزاء استجابة ما كان يمكن أن تحدث لو لم تحدث هذه الإثارة العاطفية"، والدعاية بهذا المعنى لا تفترض سوى التلاعب بالمنطق، كما تتجه إلى الصديق فإنها تتجه إلى غير الصديق.

ويرى علماء النفس الاجتماعي أن الدعاية محاولة إعلامية للتأثير في اتجاهات الناس وآرائهم وسلوكهم، لأن عملية تجميع المعلومات ومقاطعتها تعتبر من مرتكزات التحليل السياسي؛ تخلق الدعاية الموجّهة بيئة مضلّلة تجعل كبار المحللين يقعون في شرك أخبارها ومعلوماتها المزيفة.

وعلى سبيل المثال: استطاعت الدعاية الروسية أن تقنع أغلب الخبراء والمحللين حول العالم أن الجيش الروسي هو ثاني أقوى جيش في العالم، وأن أسلحة هذا الجيش على درجة من التطور تضاهي الأسلحة الغربية، بل وتتفوق عليها في كثير من الأحيان، لتأتي الحرب الأوكرانية وتكشف للعالم أن كل ما كان يُقال مجرد تضليل إعلامي.

إذن، لا يكفي للمحلل السياسي أن يكون مستهلكاً للمعلومات وحسب، بل يجب أن يكون علاوة على ذلك من أصحاب الخبرة بالدعاية السياسية، وعلى دراية بمصالح الأطراف، أو الطرف المقصود بالتحليل السياسي، وإلا وقع ضحية للتلاعب الإعلامي، وبالتالي داعماً لأهدافه وغايته من غير أن يدري، وذلك من خلال مساعدته في نشر دعايته على أوسع نطاق ممكن.

ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وفرض نفسها كوسائل إعلام حرة، سارعت أنظمة الاستبداد إلى استغلال تلك النوافذ على أوسع نطاق ممكن، خاصة أن المعلومات من خلالها تصل إلى الفرد مباشرة دون العبور من تحت مجهر الخبير إن وجد، وهكذا أصبح التلاعب بمشاعر الأفراد والمجتمعات وبخلفياتها المعرفية والمعلوماتية أشد خطورة وتضليلاً.

مبدئياً، يمكن القول إن التركيز الكثيف والمفاجئ على قضية معينة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي يعتبر مدعاة للشك فيما يقال، فمثلاً: عندما كان فيروس كورونا يغزو العالم؛ فجأة ومن غير سابق إنذار ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بعدد كبير من المنشورات التي تتحدث عن انتشار مرعب للإصابات الخطيرة بهذا الفيروس في المناطق التي تقع تحت نفوذ نظام أسد، فهذا يستنجد وذاك يصرخ وأخرى تستجدي المساعدة.

ومن خلال الملاحظة يتبيّن أن معظم هذه المنشورات صادرة عن مجموعة محددة من الأشخاص من حسابات متعددة، حيث كان تكرار العبارات وتشابهها واضحاً.

في العادة، تكون الجهة الموجهة لهذا النوع من "البروباغندا" تتوخى أهدافاً محددة؛ أهمها نيل الاستعطاف وممارسة نوع من الضغط على بعض الجهات المانحة للحصول على بعض المساعدات تحت يافطة الحالات الإنسانية، وربما هناك أهداف أخرى أقل أهمية.

وبدافع التعاطف أو بدوافع أخرى يقوم البعض بمشاركة هذه المنشورات أو نسخها أو النشر حول تلك الحالة على أساس أنها معلومات مؤكدة قادمة من المصدر، وهكذا يساهم الفرد في نشر دعاية الخصوم دون أن يشعر.

في أيامنا هذه؛ يلاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي تتناقل أخبار الشكوى والنحيب حول تردي الأوضاع المعيشية للسكان في مناطق أسد، ويأتي ذلك بالتزامن مع حراك دبلوماسي عربي ضمن سياق مبادرة "خطوة بخطوة" التي يقودها الأردن.

والمبادرة – حسب المعلومات المتوفرة – تنطوي على شقين: إنساني وسياسي، ولأن نظام أسد يرغب بتنحية الشق السياسي جانباً من غير أن يخسر بعض المزايا والفوائد، التي يمكن أن يحصل عليها من خلال الإجراءات المتعلقة بالشق الإنساني، يحاول ممارسة بعض الضغوط من خلال الإيحاء بأن المأساة الإنسانية والأوضاع الاقتصادية تحتاج لإجراءات إسعافية، وهي لا تحتمل ربطها بالملف السياسي.

كل هذا لا يعني أن فيروس كورونا لم يضرب المناطق الواقعة تحت نفوذ نظام أسد، كما إنه لا يعني أن تلك المناطق لا تمر بأزمة اقتصادية خانقة، وإنما يعني أن الصورة المقصود إيصالها هي تضخيم ومبالغة بحجم المأساة، وأن الجهة التي تحاول أن تظهر – عند اللزوم - المناطق الواقعة تحت نفوذها على أنها جنة غناء؛ هي ذاتها الجهة التي تحاول أن تظهر هذه الصورة من البؤس المعشعش في مناطقها.

كل القضية أن الصورة المعروضة هي صورة تخدم القضية الراهنة، وهي صورة مختارة بعناية شديدة لخدمة هدف معين.

عندما نكون أمام نظام مستبد لديه المقدرة – تحت سطوة الإرهاب والتخويف – أن يخرج الشعب اليوم ليبكي، ثم يخرجه في اليوم التالي ليرقص؛ علينا توخي الحذر في كل ما يصدر عنه، سواء عبر القنوات الرسمية أو غير الرسمية، ولا يقتصر الأمر على الإنسان العادي الذي يتأثر بما تعرضه وسائل التواصل الاجتماعي، بل يتعداه ليشمل بعض المحللين والمتحدثين بالشأن العام.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات