لعله من نافل القول إنّ من أهمّ تجلّيات الثورة السورية، بل أكثرها تجلّياً، هو انعكاسها في أقلام كتابها وشعرائها، فقد آمن بهذه الثورة - وكان صوتها - مجموعة كبيرة من أدباء وشعراء سوريا الذين آلوا على أنفسهم إلا أن يكونوا صوت الحق فيها؛ لتكون كتاباتهم شهادة تاريخية تنقل ما حصل بدقة إلى الأجيال القادمة.
ولعل كتاب "غصن الزيتون مخضلّ" للكاتب السوري ابن محافظة إدلب محمد ظلال المعلّم، الصادر عن دار زقاق الكتب للنشر والتوزيع عام 2023، والموجود بمعرض إدلب للكتب القائم في هذه الفترة، أحد هذه الأعمال التي تُعد بما حوته من حقائق وأحداث على شكل مسرودات قصيرة شبيهةٍ بالمذكّرات اليومية، ووثيقة تاريخية مهمة يضعها كاتبنا المعلّم بيد الأجيال القادمة من أبناء وطنه الجريح.
الكاتب محمد ظلال المعلّم (وهو بطل الجمهورية لعدة أعوام في لعبة الطاولة، ومدرب للمنتخب السوري في هذه اللعبة، قبل أن يُندَب إلى السعودية ليكون مدرباً لأحد أنديتها)، يسرد في بداية كتابه حكاية الثورة الأولى في ثمانينات القرن العشرين المنصرم، والتي اصطُلِح على تسميتها حينها بـ "ثورة الإخوان المسلمين"، حيث يتحدث الكاتب عن أول مظاهرة خرج بها أهل إدلب الخضراء ضد طغيان حافظ أسد وجبروته، وهتفوا بإسقاط النظام الذي واجههم بالرصاص من دورية شرطة كانت موجودة في مكان المظاهرة، ما أدى إلى الاشتباك معها من قبل الأهالي وحرق سيارتهم بعد أن فرّوا من المكان، لتكون هذه المظاهرة أول رسالة للنظام ورأسه بأن إدلب لن تكون لقمة سائغة، وهذا ما أكّدته الأحداث؛ إذ أقدم أهل إدلب على رمي حافظ أسد بالأحذية المهترئة والطماطم الفاسدة عندما قام بزيارة المدينة عام 1971 بعد انقلابه بسنة واستيلائه على الحكم بالقوة العسكرية، لتكون هذه زيارته الأولى والأخيرة خلال سنين حكمه.
أعقب ذلك اعتقالات كبيرة طالت أبناء إدلب من كل الأعمار حتى من الأطفال، وسيقوا إلى سجن تدمر الصحراوي سيئ السمعة، وكثير منهم لم يعرف مصيره حتى الآن.
معاناة عائلته في ظل حكم الأسد
يتحدث الكاتب في أحد فصول كتابه عن معاناة عائلته في ظل حكم الأسد، باعتبارها عائلة معارضة ومحسوبة على التيار الإخواني، ويورد الكاتب حديثاً عن أبيه الشاعر محمد بديع المعلّم مدرس اللغة العربية، الذي رفضت الجهات المسؤولة طباعة ديوانه الأول، فقام بطباعته على حسابه الخاص، وبعد وفاته يقوم ابنه كاتب هذا الكتاب الذي بين أيدينا بالسعي لطباعة ديوان أبيه الثاني على نفقة مؤسسات الدولة، وبعد جهدٍ جهيد يستطيع تنفيذ ذلك بعد لقائه بوزير الثقافة "رياض نعسان آغا" ابن مدينة إدلب وصديق والده، والذي لقّبه بـ بحتري العرب.
يصل الكاتب في سردياته إلى الربيع العربي الذي بدأ من تونس عندما أحرق مواطن تونسي يُدعى "محمد البوعزيزي" نفسه احتجاجاً على صفعة تلقّاها من شرطية تونسية إثر مصادرتهم لبضاعته التي يتعيّش منها هو وعائلته وتحطيمهم لعربته، لتشتعل بعدها تونس بالمظاهرات السلمية حتى اضطر رئيسها زين العابدين بن علي التخلّي عن السلطة والهروب خارج البلاد، فتلحق بها ليبيا ومصر، ثم تصبح شمس الربيع العربي على أبواب الشام، فتبدأ بشروقها من درعا عندما أقدم أطفال بعمر الزهور على كتابة عبارات ضد النظام على جدران مدرستهم منها "اجاك الدور يا دكتور"، ليقدم العميد عاطف نجيب بعدها على اعتقال هؤلاء الأطفال وتعذيبهم وإهانة وجهاء درعا الذين ذهبوا إليه يستعطفونه لإطلاق سراحهم.
الحراك السلمي
يتحدث الكاتب عن انخراطه هو وأخوه وأبناؤهما في الثورة، ومشاركتهما في الحراك السلمي في محافظة إدلب وريفها الذي كان زخمه في الثورة أشد من المدينة بكثير، مثل باقي المحافظات حيث الريف كان سباقاً في الثورة أكثر من المركز، هذا الحراك الذي واجهه النظام وشبيحته بداية بالقوة الناعمة (مواجهة المتظاهرين والتعدي عليهم بالأيدي) وصولاً إلى القوة المفرطة التي لم يعرف السوريون لها حدوداً (القتل بالرصاص الحي).
وأوضح الكتاب أيضاً كيف حاول النظام أن يدخل العداء بين أهل المدينة والريف، وكيف أنه اغتال أحد الشباب المسيحيين ليوقع الشقاق والبغضاء بين أتباع الديانة المسلمة والمسيحية، وما كان موقف العالم المتخاذل والجامعة العربية، إلى أن وصلت إلى لحظة دخول الجيش الهمجي الذي يسميه مسؤولوه بالجيش الباسل ويسميه الشعب بجيش أبو شحاطة، الذي قتل الآلاف من الأبرياء العزل، واحتل إدلب التي أصلاً كانت محتلة على طول زمن حكم البعث.
وتتحدث فصول الكتاب عن المطاردات الأمنية والاعتقالات التي جرت لأهل مدينة إدلب، وعن التجارب الصعبة في فروع الأمن وخارجه التي مرت معه شخصياً مع بعض رجالات النظام إلى أن وصل إلى نهاية القصة كيف أنه استطاع الفرار من قبضة القوى الأمنية هارباً إلى خارج إدلب.
ويحاول الكاتب في مذكّراته هذه ألا يترك شاردة أو واردة من أحداث الثورة السورية في بلده إدلب إلا ذكرها، وسجّلها حتى تُنقل لأبناء بلده من الأجيال القادمة بأمانة، وتكون شهادة تاريخية له أي للكاتب على ما حدث في محافظته غصن الزيتون المخضل الذي أدماه نظام أسد المتوحّش.
ولعلّ الأهمية الكبرى التي يتمتع بها أدب الثورة السورية، يرجع إلى كون هذا الأدب شعراً أو نثراً، وثيقة تاريخية للأجيال القادمة، فقد استطاع هذا الأدب بما حواه من صدق العاطفة ونبل الغاية أن يكون صوت الشعب السوري العظيم الذي تخلى عنه القاصي والداني، وتُرِك يواجه مصيره وحده أمام آلة القتل والدمار والتهجير التي لم يألُ نظام الأسد جهداً في استخدامها إلى أقصى ما يستطيع، حتى أعاد البلاد إلى مئة سنة خلت.
ولعلنا أخيراً نستطيع القول إن الكاتب السوري محمد ظلال المعلم استطاع أن يجعل من مذكراته وسردياته في كتابه "غصن الزيتون مخضل" شهادة ووثيقة تاريخية ليس لأبناء إدلب الخضراء من الأجيال القادمة وحسب، بل لأبناء سورية من غربها إلى شرقها، ومن جنوبها إلى شمالها، شهادة ترسم بالكلمات مأساة شعب ومعاناة أمة، وقفت كل أمم الأرض تراقب المجازر التي ارتكبتها بحقّه حكومته دون أن تعمل على إيقافها ومنع حدوثها.
الكاتب محمد ظلال المعلم في سطور:
ألّف إحدى عشرة رواية تتحدث معظمها عن قصص اجتماعية وسياسية جرت في ظل نظام أسد.
حاصل على دبلوم تربية رياضية وهو بطل سوريا بكرة الطاولة لسنوات طويلة ومدرب لمنتخبها.
في إبان الثورة كان مديراً لمشاريع هيئة الشام الإنسانية في سوريا.
وبعد طرد ميليشيات أسد من إدلب عُيّن مديراً للهيئة الرياضية فيها، ومن ثم انتخب رئيساً للهيئة السورية للرياضة والشباب، التي عملت على طول المحرر من درعا إلى ريف دمشق فريف حمص وريف حماة وحلب وإدلب.
التعليقات (1)