لم يكتف نظام الأسد بهدم أحياء ومدن بأكملها، بل لجأ لتهجير نحو نصف السوريين، وحتى اليوم لا الهدم توقف، والتهجير تصاعدت وتيرته بحدة عبر أدوات مختلفة.
وبالتوزاي كانت هناك حرب أبعد من الحرب ضد البشر والحجر، هدفت لتشويه تاريخ المنطقة والحقب الزمنية التي تعاقبت على سوريا.
تحاول "أورينت نت" عبر تحقيق صحفي، الحفر بخبايا الأدوات التي اعتمدها نظام أسد لطمس تاريخ سوريا وشيطنة حقبة زمنية لأنها لم تخدم أجندته السياسية خلال سنوات الثورة، عبر مؤسسات تعيد كتابة التاريخ وإخفاء وثائق تاريخية، وعدم الاكتفاء بذلك بل خدع الناس والمهتمين بالتاريخ للحصول على ما يمتلكونه من كنوز تاريخية لا تقدر بثمن.
ولأن النظام يعمد إلى مأسسة الفساد والسرقة لجأ إلى تأسيس منظمات هدفها الرئيس الاستيلاء على تاريخ سوريا بالمعنى الحرفي، فكانت إحدى هذه المؤسسات من نصيب "بثينة شعبان" وأطلق عليها "مؤسسة وثيقة وطن" والثانية لابنتها ناهد جواد تحت مسمى "مؤسسة تاريخ دمشق".
حرائق مفتعلة لإحفاء "مسرح الجريمة"
ليلة الأحد، 16 تموز نشب حريق في منطقة ساروجة بدمشق والتهم معالم تاريخية وبيوتًا شهدت على تاريخ المدينة القديمة لأكثر من ثلاثة قرون، وامتدت ألسنة اللهب لتصل إلى بيت أثري يُعرف بأنه منزل عبد الرحمن باشا اليوسف، أمير محمل الحج الشامي في عهد السلطنة العثمانية، وكذلك منزل الرئيس السوري السابق خالد العظم.
وتمكّنت أورينت نت من الوصول إلى محمد الطويل -اسم مستعار- وهو طالب في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق خضع لدورة تدريبية مع "مؤسسة وثيقة وطن" ومن ثم عمل معهم كمتطوع "طمعاً بالبطاقة" كما قال لنا والتي يتم منحها للمتدربين وتعتبر أشبه ببطاقة أمنية لأن توقيع "المعلمة" بثينة شعبان -كما يطلق عليها داخل المؤسسة- يتذيلها.
يقول محمد لأورينت نت: "تقيم مؤسسة وثيقة وطن دورات تدريبية للمتطوعين معهم لشرح مبادئ التأريخ، والأسس التي يتم العمل عليها، لتوثيق مختلف المشاريع بالإضافة إلى شرح مفهوم التأريخ، وكيفية الاستفادة من العلوم الاجتماعية، ومراحل الخطة التوثيقية من التفريغ إلى التحليل والتقييم، بالإضافة إلى تقديم تمارين وملاحظات من خلال مقابلة عملية".
وخلال التدريب كنا نقوم بزيارات ميدانية إلى أماكن تاريخية كثيرة كان من ضمنها منزلا عبد الرحمن باشا اليوسف وخالد العظم المسجلان على لائحة التراث الوطني السوري ويعود بناء المنزلين، إلى الفترة الممتدة بين عامي 1800 إلى 1865".
يقول محمد: "يعتبر منزل العظم مركزاً لأهم الوثائق التاريخية والأثرية من أرشيف سوريا خلال حقبة الحكم العثماني، وكان دورنا كمتطوعين في مؤسسة وثيقة وطن نسخ كافة الوثائق التاريخية قبل أن يتم نقلها إلى مكان نجهله، وحاولنا معرفة وجهة الوثائق الأصلية فكان الجواب إلى المتحف الوطني، لكن الطريقة المريبة التي يتم فيها نقل الوثائق الأصلية بحراسة أمنية خاصة كانت توحي بأن الموضوع يعتريه الكثير من إشارات الاستفهام".
وخلال فترة تطوعه كان لدى محمد تمرين من كلية الفنون الجميلة لرسوم من المتحف الوطني، فسأل بطريقة عفوية أحد موظفي المتحف عن الوثائق التي تصلهم عبر مؤسسة وثيقة وطن فكان جواب الموظف عن سبب سؤاله، وأنه لا يوجد أي تعاون مع المؤسسة المذكورة، وبعد أيام قليلة تفاجأ محمد بالاستغناء عنه كمتطوع لدى مؤسسة وثيقة وطن دون إبداء الأسباب.
وتشهد دمشق القديمة بين الفينة والأخرى "حرائق دون سبب واضح"، وينقل إعلام أسد الخبر دون الحديث عن السبب وسبل تفاديه في المستقبل، تلك الحرائق التي طالت منازل قديمة وأبنية أثرية وأسواقاً عتيقة، وفي حالات نادرة جداً يكون التبرير بأن الحريق نتج عن "ماس" كهربائي.
أما في مؤسسة تاريخ دمشق والتي تعرّف نفسها بشكل صريح بأنها مشروع التنقيب والبحث ليس فقط في الدوائر الحكومية بل في الممتلكات الخاصة كالبيوت القديمة، عن أرشيف مدينة دمشق منذ عام 1860 والذي يشمل (صور، مخطوطات، مراسلات، صحف، كتب، وأوراق غير منشورة)، وتسعى المؤسسة لـ"حفظه وفهرسته وجمعه إلكترونياً وورقياً تمهيداً لوضعه في متحف فعلي وافتراضي".
وبحسب بيان تأسيسها فإن للمؤسسة الصلاحية لتقييم وأرشفة وتوثيق كافة أنواع الوثائق وحفظ الأرشيف وتبويبه، وتستطيع المؤسسة عبر مؤرخيها ومختصيها وضع هذا الأرشيف في سياقه التاريخي والبحثي لتسهيل عمل الباحثين والمهتمين!
الصحفي السوري والمنسق الإعلامي في ”مجلس وزراء الإعلام العرب“ بـ”جامعة الدول العربية“ زياد الريس أكد لأورينت نت أن تأسيس هذا النوع من المنظمات ويقصد "مؤسسة وثيقة وطن" و"مؤسسة تاريخ دمشق" يجب أن تكون مؤسسات وطنية أعلى من "حكومية" هيئات مستقلة متخصصة تضم نخباً من علماء وخبراء التراث والتاريخ والأدب، ويجب أن يكون لها نظام رقابي صارم جداً.
وأضاف الريس أن النظام عندما يأتي بمؤسسات فردية يتم تشكيلها من قبل أحد رموز الفساد والتشبيح لديه، فحُكماً سيكون الهدف منها إحراق وتدمير وبيع ومتاجرة وتحريف التاريخ والوثائق التي وصلت لنا.
ولمعرفة الصلاحيات والحدود التي تخولها لنفسها مؤسسة "تاريخ دمشق"، تواصلنا مع دكتور في كلية الآداب بجامعة دمشق ويدرّس مقرر تاريخ الدولة العثمانية لطلبة قسم التاريخ، الذي أكد أن المؤسسة تهدف بشكل رئيس لوضع يدها على مخطوطات ومراجع تاريخية، والأخطر هو إعادة توثيقها بالطريقة التي ترتئيها "وضع الأرشيف في سياقه" بحسب تعريفهم.
وأضاف الدكتور، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، في حديثه لأورينت نت أنه طلب منه فادي الاسبر - أحد المؤسسين وعضو مجلس أمناء- المساهمة بإعادة كتابة وتوثيق الحقبة العثمانية بحيث يتم التركيز على ما سمّاه "جرائم الاحتلال العثماني بحق المنطقة العربية" ومحاولة إيجاد إسقاطات بأن كل ما تحاول تركيا اليوم فعله هو تكرار "لجرائم الدولة العثمانية" وليس بشيء جديد.
وأكد الدكتور بأنه ومن خلال زياراته للمؤسسة التي تكررت عدة مرات، لفت نظره وجود موظفين من السفارة الإيرانية في مكتب ناهد جواد، والتي تعرف بنفسها بأنها متخصصة بالعمارة الإسلامية في دمشق والتخطيط العمراني وأيضاً مؤسسة وعضو مجلس أمناء بالمؤسسة، وبحضور ثائر دريد لحام وهو أمين صندوق المؤسسة وهو صاحب السلطة الأعلى بالمؤسسة بصفته صلة وصل المؤسسة مع السفارة الإيرانية ويلقبه الموظفون بـ"ثائر سليماني" لتعصبه الأعمى ودفاعه المستميت عن سيىء الذكر قاسم سليماني.
وناهد جواد هي ابنة بثينة شعبان ولا تحمل الجنسية السورية كون والدها خليل جواد يحمل الجنسية العراقية ووفقاً للدستور السوري فإن الأم لا تجنس زوجها ولا أبناءها.
ويؤكد الدكتور بأن المؤسسة وبحسب ما هو معلن فإن مقتنياتها نحو 500 كتاب من نفائس الكتب التي تؤرخ لحقبة الحكم العثماني للمنطقة وكذلك نحو 2500 من الوثائق حول دمشق وسوريا بشكل عام، وبالتأكيد ما تم إخفاؤه أكبر بكثير من المعلن.
ونبّه الدكتور من خطورة نشاط مؤسسة تاريخ دمشق عبر تطوير مكتبة مختصة بتاريخ المدينة القديمة المعاصر أي خلال الـ500 السنة الماضية عبر نسف تاريخ وفن وعمارة ومجتمع والعادات والتقاليد وكذلك الاقتصاد، وإعادة كتابة التاريخ بما يتوافق مع الرواية الإيرانية السياسية وشيطنة الدولة العثمانية وعكس كل الأحقاد الدفينة من إيران تجاه الدولة العثمانية.
وناشد الدكتور أهالي دمشق ولا سيما من يملك كتباً أو وثائق تاريخية بعدم منح الثقة لهذه المؤسسات، وتأتي مناشدة الدكتور بعد أن أعلنت مؤسسة تاريخ دمشق عدم اكتفائها بالوثائق المتوفرة بالمواقع الأثرية بل تهدف أيضاً لجمع مقتنيات أهلية من خلال قبول المساعدات والتبرعات وما يتم إهداؤه لمؤسسة تاريخ دمشق من مكتبات خاصة تبقى تحمل أسماء أصحابها مثل مكتبة الأستاذ الدكتور عزيز شكري ومكتبة المخرجة غادة مردم بيك وزوجها الأستاذ غازي غزي.
ويختم الدكتور كلامه بتشبيه الأسلوب المتبع حالياً بافتعال حرائق بالمواقع الأثرية، بما حصل سابقاً في آثار مدينة تدمر حيث تم الاستيلاء على الآثار الحقيقية في المدينة وتم وضع منحوتات طبق الأصل عنها ليتم بعد ذلك تصوير أن تنظيمات تعمل لصالح النظام وإيران قامت بتدميرها، ونفس الأمر حدث لسجن تدمر، حيث تم تدميره لإخفاء كل جرائم حافظ الأسد واليوم يتم افتعال حرائق بعد سرقة محتويات المكان المحروق.
ولا يستبعد الدكتور أن تتم عمليات تصفية بحق مؤرخين ومطلعين على خفايا عمل هذه المؤسسات كما حصل تماماً مع ﺍﻟﻣﺩﻳﺭ السابق ﻟﻶﺛﺎﺭ ﻭﺍﻟﻣﺗﺎﺣﻑ ﻓﻲ ﺗﺩﻣﺭ الراحل ﺧﺎﻟﺩ ﺍﻷﺳﻌﺩ.
التعليقات (13)