من المؤكد أن تناول الحالة السورية كتابياً أخذ منحى يتسع ليشكّل ما يشبه سياقاً أدبياً، فهناك كثير من النقاد باتوا يطلقون على ما كُتب خلال درب الآلام السورية "أدب اللجوء" وكثير من الكتّاب ما زالوا عالقين في فوهة الحرب السورية، يسردون وجوه الموت المتعددة التي حلت، لكن قلة منهم انحاز إلى مساحة مآلات تلك الحرب، أو اللجوء، وآثارها على النفس، ومن الفقرة الأخيرة نذكر رواية "ظل بين ورقتين" للكاتبة السورية رندة عوض، والتي صدرت مؤخراً عن دار موزاييك للدراسات والنشر وجاءت في 246 صفحة من القطع المتوسط.
في هذه الرواية التي يطفو على سطحها واقع بلغة سردية محكمة، يظن قارئها للوهلة الأولى أنه أمام عمل عادي، يحكي قصة امرأة، أمّ لطفلتين، عاركت الحياة، وانتصر الواقع بكل ما فيه من وجع عليها، لتقرر أخيراً أن تلجأ إلى الكتابة التي لطالما كانت عزاءها، والتي أصبحت بعد اندلاع الحرب تذكرة وصولها وابنتيها إلى بر الأمان، حين تقرر بطلة الرواية باتفاق مع أهلها وزوجها أن تتقدم لمنحة لجوء أدبية، وعندما يتم ذلك وتتحرك "ستيلا" من بيئتها، إلى بيئة أخرى، تبدأ أحداث الرواية بأخذ خط سير تصاعدي، حيث تبدأ بسرد وجوه وشخوص ثانوية متعددة لحالات اللجوء، على الرغم من أنها وصلت من دون عناء إلى حيث هي، ولم تكابد، إلا أنها تحاول تغطية أكبر كمٍّ من الأحداث التي طرأت على الإنسان السوري في مغتربه.
في حين أن كثيراً ممن عايشوا رحلة اللجوء، قاموا بكتابتها، كونها برأيهم الحدث الأكبر بالنسبة إليهم، وهو ما يستحق الكتابة، لكن "رندة عوض" اختارت جانباً آخر لتسلط عليه الضوء، فقد ركزت على حياة "الكامب" أو مخيمات اللجوء الأوروبية، لتكون مادتها الأسخن، وركنها الذي نصبت كاميرتها فيه، وأخذت تصوّر مشاهد وأحداثاً لا يمكن أن يراها من لا يمتلك ملكة الكتابة.
مشهدية وحوارات، هي الأدوات الرئيسة التي اتكأت عليها "عوض" لتروي لنا قصص اللاجئين، بدءاً من التابوهات واللاجئين العابرين، وليس انتهاءً عند أبسط اللاجئين تحصيلاً علمياً وثقافة، وكما شملت سردية "عوض" السوريين خصوصاً، لم تغفل أيضاً عن باقي سكان الكامبات القادمين من عدة دول كالصومال والعراق وأفغانستان وغيرها.
في "ظل بين ورقتين" عبور للبطلة "ستيلا" من تحت هيمنة المجتمع الذكوري الذي طالما كانت محاطة به، إلى حرية جزئية، شابها صراع هوياتي، فـ"ستيلا" وكونها فلسطينية سورية، وأم لابنتين فلسطينيتين مصريتين، جعل من هذه الشخصية ساحة حرب لتحصيل الهوية، وقد ظهر كل هذا في تلك البيئة "الحرة" كما يقال، ومما أجج الصراع الهوياتي، هو عدم استناد "ستيلا" على جنسية محددة، فهي عموماً لاجئة سورية، لكنها لا تحمل الجنسية السورية، وهي فلسطينية الأصل، وفي تلك البقعة لا يوجد اعتراف رسمي بهذا الأصل، كما إن ابنتيها لا تحملان جنسية مصرية وهكذا...
ومما تطرّقت إليه "عوض" وهو نادراً ما يُذكر، أنها ركزت على تأثير حياة الكامبات على الأطفال الصغار والمراهقين، من جوانب عدة، نفسية منها، واجتماعية، وحتى الثقافة التي تتكون في تلك المجتمعات لم تتجنبها الكاتبة، بل كانت تحت عدسة مجهرها، ربما نحن البعيدون عن تلك المجتمعات لسنا في عمق الحدث لنتشاركه مع الكاتبة، ولذلك جلبت "عوض" الحدث إلينا مسروداً بأسلوب سلس قابل للفهم.
وعلى الرغم من أن الكتابة كانت ملجأً لستيلا، وتذكرة نجاتها، إلا أنها في مجتمعات الكامبات واللجوء في ما بعد، أصبحت الكتابة نفسها نقمة عليها، حيث يظهر ذلك في قبول ملفات اللاجئين من مستويات ثقافية أقل، وهذا ما عبرت عنه ستيلا بأن المجتمعات الأوروبية تريد عبيداً لا يفكرون، يعملون ويندمجون في هذه المجتمعات وفقط، بينما المثقف صاحب الفكر سيسبب صداعاً لتلك المجتمعات.
ولصنع مقاربات، اختارت عوض خاصية الفلاش باك للعودة إلى بيتهم في غوطة دمشق، وإلى ذكريات وأحداث هناك، وإلى السعودية مكان إقامتها التالي، وليس عبثاً اختيار الكاتبة لهذه الأحداث، بل اشتباكاً مع الواقع، وتأكيداً على هوية بطلة روايتها والتي كُتب عليها اللجوء كما كُتب على جدّها من قبلها.
وبينما لم تُطلق تسمية واضحة على أي مجتمع من المجتمعات اللاجئة المنثورة في بقاع الأرض، إلا أن ثقافة هذه المجتمعات المتشكلة حديثاً تصفها وصفاً دقيقاً، ويمكننا القول إن رواية "ظل بين ورقتين" أضافت تسمية لتلك المجتمعات المؤقتة والجديدة وسلطت الضوء عليها، وعلى ثقافاتها، وأزماتها النفسية والأخلاقية، ولا بد هنا من التأكيد على فرادة الرواية التي بين يدينا في هذا الجانب.
من أجواء الرواية:
بدأت تشعر بأن يديها تتحولان لقطعتي خشب ومشاعرها تخشبت، أما شعرها فأصبح كالأغصان اليابسة وبشرتها كاللحاء، تنام واقفة ولا يدخل أمعاءها سوى الماء، لا ترى إلا ضوء النهار، بدأت تتلون كالليل بالظلمة والهدوء المخيف، ظنت للحظات أنها تحولت لشجرة. وليسهل التواصل بينهما أسمتها (ألق)، فعندما تهم بالدخول للوحدة تقول لها: إلى اللقاء يا ألق، أراكِ غداً صباحاً هنا عند البوابة. ثم تضحك: آه! اعذريني يا عزيزتي أعلم أنك غير قادرة على الحراك نحو الأمام والوراء لكنك تمدين جذورك عميقاً في الأرض، وتشمخين عالياً نحو السماء، في الحقيقة أنت تتحركين عمودياً، أما نحن - معشر البشر - فنتحرك أفقياً، وسأتعلم منك أن أتحرك عمودياً كيلا أنسى جذوري، وللأعلى لأكون شامخة.
التعليقات (1)