تمرد مرتزقة فاغنر.. دلالات لا تخطئها العين البصيرة

تمرد مرتزقة فاغنر.. دلالات لا تخطئها العين البصيرة

رغم التوافق على إنهاء تمرد مرتزقة فاغنر ضد النظام الروسي بعد استمراره لساعات فقط، والاقتناع بحقيقة أن الحكم على التمرد ومآلاته النهائية يبدو مبكراً مع بقاء احتمالات الاقتتال والحرب الأهلية وحتى الانقلاب العسكري مطروحة ولو نظرياً، إلا أن ثمة دلالات أولية وأساسية لا تخطئها العين والبصر والبصيرة، ولا يمكن القفز فوقها مع نجاح التمرد في السيطرة على مدينة روستوف الحدودية الإستراتيجية، بما في ذلك مقر القيادة العسكرية المركزية التي تدير الغزو ضد أوكرانيا، واحتجاز جنرالات كبار فيه وإسقاط طائرات حاولت مهاجمة المتمردين حوله، وانكشاف طريق العاصمة موسكو أمامهم واقتراب أرتالهم إلى مسافة 200 كم منها، ولجوء الجيش إلى إقامة تحصينات داخل العاصمة وحولها، إضافة إلى السقف المرتفع لخطاب زعيم المرتزقة يفغيني بريغوجين تجاه وزير الدفاع وكبار القيادات السياسية والعسكرية في روسيا بمن فيهم الرئيس فلاديمير بوتين نفسه كما الغزو الروسي الكارثي لأوكرانيا.

بداية ومنهجياً، لا بد من التذكير بنشأة مرتزقة فاغنر من قبل يفغيني بريغوجين أحد مقربي الرئيس فلاديمير بوتين للقيام بالمهام القذرة التي يريد النظام الروسي التنصل منها، وعدم تحمّل مسؤوليتها علناً لاعتبارات سياسية وقانونية واقتصادية، كما حصل فعلاً في سوريا وليبيا والسودان ومالي وإفريقيا الوسطى.

جاءت فاغنر نسخة باهتة من شركة بلاك ووتر الأمريكية سيئة الصيت غير أن التقليد الروسي لها بدا استبدادياً فظاً ومنفلتاً وبائساً وسوفييتي الشكل والمضمون.

مع الاحتفاء الروسي الرسمي سياسياً وعسكرياً وإعلامياً بالإنجازات المزعومة للمرتزقة، رغم أنها اعتمدت على مجرمين وسجناء من أصحاب السوابق، وارتكبت جرائم حرب وفظائع بالمعنى الحقيقي، إلا أن الاحتفاء بها على أرفع المستويات أعطاها قوة كبيرة إضافة طبعاً إلى العلاقات الوثيقة لزعيمها بريغوجين بالرئيس بوتين ضمن توزيع السلطات والمسؤوليات بين الطبقة الحاكمة، كما هي العادة في الأنظمة الاستبدادية.

مع تعثر الغزو الروسي لأوكرانيا وانكشاف الجيش وعجزه عن أداء المهمة تمت الاستعانة بالمرتزقة الذين بدوا منقذين أو مخلّصين، ما مثّل أحد أسباب تضخيم قصة مدينة باخموت "غراد" الصغيرة وعديمة الأهمية، والقول إن ثمة انتصارات يتم تحقيقها على الأرض وتجييرها لصالح النظام ككل بعدما قاتل المرتزقة تحت لوائه مباشرة دون أخذ مسافة، كما هو الحال بالخارج وإفريقيا تحديداً، علماً أنها مرتبطة مباشرة كذلك بجيش الاحتلال الروسي في سوريا لحاجته إلى قوات بشرية على الأرض للدفاع عن أهداف ومصالح ومطامع الاحتلال خارج قاعدة حميميم وبعيداً عن إيران والميليشيات المرتبطة بها.

من هنا نشأت جذور التمرد مع الأداء السيئ للجيش في أوكرانيا، واتهام زعيم المرتزقة له بالعجز عن تحقيق إنجازات وانتصارات ملموسة هناك، وزعمهم أنهم أي المرتزقة قادرون على تحقيق أداء ونتائج أفضل.

غير أن المغالطة المنهجية والمتعمدة تكمن في حقيقة أن فاغنر - وروسيا عموماً - لم تواجه جيشاً أو قوى مزودة بالحد الأدنى من التجهيزات العسكرية، علماً أن المرتزقة خسروا في ليبيا وفشلوا في مساعدة المتمرد خليفة حفتر باعتباره النسخة المحلية من بريغوجين في احتلال العاصمة طرابلس إثر الدعم التركي لقوات الحكومة الشرعية ومساعدتها على الصمود والانتصار.

بناء على ما سبق، عمد يريغوجين خلال الفترة الماضية وفيما بدا تمهيداً للتمرد إلى اتهام القيادة العسكرية للجيش الروسي بالفساد وعدم الاحترافية رغم أن الانكشاف أو الفضيحة بأوكرانيا كانت للدولة والنظام الذي يعتبر زعيم المرتزقة أحد أركانه ورموزه.

في السياق الأوكراني أيضاً، وبدون أن يقصد نسف زعيم المرتزقة الرواية أو الأكذوبة التاريخية والفكرية والسياسية للغزو وتضليل بوتين، حيث لم يكن ثمة تحالف أوكراني مع  حلف الناتو أو رغبة في مهاجمة روسيا، وبالطبع أكذوبة أو فرية وجود النازيين هناك، حيث الحكومة الديموقراطية المنتخبة، علماً أن النازيين الجدد أو المتطرفين القوميين هم من يتحكمون فعلياً بالسلطة في موسكو لا كييف.

باعترافه المثير بدا المرتزق برغوجين متناقضاً مع نفسه كونه شارك بالغزو وقاتل ضمن رواية النظام، وباعتباره أي الغزو دفاعاً عن المصلحة القومية والإستراتيجية للدولة الروسية.

أوكرانياً أيضاً، كان التمرد أحد تعبيرات وبراهين فشل الغزو الكارثي وارتداده الحتمي إلى الداخل، كما حصل مع الغزو السوفييتي لأفغانستان قبل عقود، وكما كان متوقعاً وحتى حتمياً بعيوبه الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والعسكرية وارتكابه جرائم حرب موصوفة كما تقول المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي خاصة مع الاستنزاف والغرق في الوحل الأوكراني، والعجز عن تحقيق الأهداف المعلنة بالأيام الأولى والمتمثلة باحتلال كييف وإسقاط الحكومة الشرعية المنتخبة، وتنصيب أخرى موالية – نسخة محلية من حكومة فيجي النازية في فرنسا بالحرب العالمية الثانية - ثم  جرى تقليص وتقزيم الأهداف إلى ضم مناطق دونتسيك ولوغانسك وخيرسون وزاباروجيا حيث نجحت كييف باستعادة البعض منها كما تبدو في طريقها لاستعادة غالبيتها العظمى.

إذن، كشف ارتداد الغزو إلى الداخل ضعف واهتراء الجيش الروسي، وعجزه عن تحقيق الانتصار بالخارج، كما عن حماية البلاد بالداخل أيضاً مع سيطرة المتمردين على مقر القيادة العسكرية المركزية بروستوف، وتنقلهم مئات الكيلومترات – 780 كم - مكشوفين دون قدرة على إيقافهم، بل العكس حيث عمد الجيش إلى تحصين العاصمة وما حولها بعدما قطع المتمردون مئات الكيلومترات دون أن يعترضهم أحد.

لا يقل عن ذلك أهمية اتهام المتمردين لوزير الدفاع ورئيس الأركان وقادة الجيش بالخيانة العظمى، والمطالبة بإعدامهم ميدانياً بالساحة الحمراء الشهيرة بالعاصمة، ما يقدم فكرة عن واقع النظام ككل مع ارتباط هؤلاء الوثيق بالرئيس بوتين، وبالتالي اتهامه أيضاً بالمسؤولية كونه يصدر القرارات ويتحكم بكل السلطات، بينما وصل زعيم المرتزقة إلى حد التجرؤ عليه شخصياً والدعوة إلى تعيين رئيس جديد للبلاد قاصداً نفسه بالطبع أو دمية له.

وبالعموم، فضح التمرّد روسيا على حقيقتها حيث لم تعد حتى دولة عظمى من الدرجة الثانية، كما كان يقول الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما ساخراً، بل بدت دولة عالم ثالث بامتياز ضعيفة ومهترئة عسكرياً واقتصادياً ومنقسمة سياساً، وعاجزة حتى عن حماية نفسها.

في المواقف الخارجية من التمرد وفيما يخص ارتداد غزو أوكرانيا إلى الداخل، وبالتأكيد سيتأثر هذا الأخير سلباً، ورغم تحقيق إنجازات صغيرة بفضل مرتزقة فاغنر وجرائمهم، إلا أن الأمور لم ولن تحسم أبداً لصالح موسكو مع نسف أسس الغزو وأكاذيبه، بينما امتلكت كييف - ولا تزال - الأفضلية الأخلاقية والسياسية ومع الدعم العسكري النوعي الأخير ستتضاعف احتمالات الحسم لصالحها.

خارجياً أيضاً، جاءت المواقف الغربية - أمريكا وأوروبا - حذرة مع التحسب من احتمال الحرب الأهلية أو انزلاق روسيا كلها إلى الفوضى كونها دولة مترامية الأطراف ممتدة من آسيا إلى أوروبا، إضافة لامتلاكها آلاف الرؤوس النووية، كما بدا الغرب منسجماً مع معادلته الإستراتيجية لجعل روسيا ضعيفة عن تهديد المحيط ولكنها قوية كي تحكم نفسها بنفسها.

أما الحلفاء فقد كان صمتهم مطبقاً ومدوياً مع فهم المعطيات والدلالات السابقة، وبدا الحشد الشعب الإعلامي الإيراني الناطق بالعربية مضطرباً ومتخبطاً، وهو من وضع نفسه في خدمة روسيا وسياساتها الاستعمارية بما في ذلك تلميع فاغنر ومرتزقتها والدفاع عنهم.

وفي الأخير وباختصار وتركيز، كشف التمرد ولو القصير زمنياً، والممتد سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ومؤسساتياً، روسيا على حقيقتها حيث النظام الاستبدادي المهترىء والهشّ، والجيش الفاسد والضعيف والمفكك، المزوّد بأسلحة متخلّفة والعاجز عن تحقيق الانتصار بالخارج وحتى الدفاع عن البلاد بالداخل، والأكيد أن موسكو المستنزفة ستنشغل بنفسها لفترة ليست بالقصيرة وقد تهرب إلى الأمام كما رأينا بجريمة سوق جسر الشغور الأسبوع الماضي، لكن تآكل صورتها وهيبتها سينعكس حتماً على سوريا والمنطقة ولو بعد حين.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات