لقد نشأ جيلنا جيل السبعين وترعرع على ما كان نظام الأسد يقدمه لنا، سواء في مناهج التعليم، أو من خلال منظمة الطلائع ومن ثم الشبيبة، ثم أخيراً من خلال الدراما التلفزيونية.
وعندما نقول الدراما التلفزيونية، فالمقصود ما كانت تبثه محطة التلفزيون الرسمي، والتي كنا نسميها ونحن شباب "قناة غصباً عنك"، فقبل دخول الصحون الفضائية وغزوها لأسطح منازل السوريين، لم يكن السوري يطّلع على غير ما تبثه القناة الرسمية، إنْ على مستوى الأخبار، أو على مستوى المسلسلات الدرامية، أضف إلى ذلك القليل من الأعمال المسرحية.
ولعلي أستطيع القول: إن جيلي تكوّن بناء شخصيّته على ما كان يُقدّم له في هذه المحطة.
أذكر ونحن شباب تم عرض مسلسل "إخوة التراب" من بطولة أيمن زيدان، وكان يتحدث عن فترة الحكم العثماني، فرسم في مخيلاتنا صورة بشعة لهذا الحكم، حتى راح الكثير منا يتخذ ما عُرض في المسلسل مرجعاً تاريخياً لتلك الفترة، ظل ذلك يكبر معنا، حتى فتح الكثير منا عينيه وفكره، وقرأ واطلع وفرز المعلومات بين المصادر، ليخلص إلى نتيجة مغايرة أو قل معدّلة عن الصورة التي رسمها لنا ذاك المسلسل والذي أذكر أنه لم يعرض إلا مرة واحدة، وقيل يومها إن الدولة التركية اعترضت عليه، ولأن النظام حينها لم يكن يشأ إغضابها، فقد منع عرضه، حتى أصبح في خانة النسيان أو كاد.
ولقد ركّز التلفزيون السوري الرسمي عبر عقود من الزمن على تقديم حكايات وقصص عن فترة الاحتلال الفرنسي، حتى أتخمها درساً وتحليلاً إلى درجة الملل، أضف إلى ذلك القليل من الأعمال التي تناولت حرب تشرين عام 1973م.
ولعل النظام استطاع من خلال هذه الدراما التلفزيونية أن يصنع جيلاً متجانساً فكرياً إلى حدٍّ ما، خلا بعض من شذّ عن القاعدة لسبب أو لآخر.
ثم جاءت الثورة السورية لتشق المجتمع السوري عمودياً، فقسم وقف مع النظام متبنّياً رؤيته وطريقته الوحشية في تعامله مع خصومه، ومصدقاً روايته حول المؤامرة الكونية عليه، وقسم آخر وقف مع الثورة وتبنى أهدافها ورؤيتها لبناء دولة مواطنة عادلة قائمة على العدل والمساواة.
وكان الوسط الفني جزءاً من النسيج الاجتماعي السوري، فهناك من الفنانين من وقف مع النظام، وهناك من وقف مع الثورة، فقدم القسم الأول رواية النظام ورؤيته في أعماله الدرامية، وأما القسم الثاني وهم الفنانون المعارضون، فقد تأخروا كثيراً في إنتاج دراما تقدم رؤية الثورة، إلا أنهم أخيراً خرجوا علينا في رمضان الفائت بمسلسل تابعه الملايين، ألا وهو مسلسل "ابتسم أيها الجنرال"، الذي قضّ مضجع النظام، ذلك أنه دخل إلى القصر الجمهوري وإلى العائلة الحاكمة، وجسّد شخصيات لم يكن السوري يجرؤ أن يتحدث عنها ولو إيماءً، فضلاً عن أن يقدمها شخصية حية في مسلسل.
ويبدو أن نجاح هذا المسلسل قد فتح شهية شركات الإنتاج الطامحة بطبيعتها للأرباح الخيالية، فنجد الآن في الأوساط الإعلامية خبراً يتم تداوله عن إنتاج مسلسل يتحدث عن حافظ أسد بالاسم، باني سورية الطائفية، وحسب الصديق الإعلامي الأستاذ محمد منصور، فإن من سيقوم بدور حافظ أسد ليس من الوسط الفني السوري.
ولعل ذلك يشير بشكلٍ جلي إلى تعدّي السوريين الهالة القدسية التي حاول نظام الأسد نسجها حول شخصية الأسد الأب ومن بعده الابن، حتى غدا الاقتراب منها ولو بالإشارة من الكبائر التي لا تغتفر، ولا شك أن هذا التعدّي على المقدّس، إنما هو من منجزات الثورة السورية، التي حطم السوريون بها جدار الخوف والرعب من النظام، ولعل ذلك سيفتح الطريق أمام أعمال قادمة كثيرة تتناول كل صغيرة وكبيرة في حياة نظام الأسد وعائلته، فتكون وثيقة وشهادة على عصر ملوّن بالدم.
التعليقات (0)