الهجرة والعقوبات الأمريكية والتغيير الديمغرافي

الهجرة والعقوبات الأمريكية والتغيير الديمغرافي

لماذا تعمد أمريكا إلى السلاح الاقتصادي لمعاقبة أنظمة غير شرعية مع أنه بامكانها اختيار أساليب أخرى مثل الدبلوماسية والحل العسكري أو حتى الضغط النفسي الإعلامي القانوني والمحاكم، وهي أساليب يمكن أن تنال من هذه الأنظمة، دون أن تؤذي الشعوب؟


في الحقيقة لم تكن العقوبات الاقتصادية الأمريكية أو الأوروبية المستهدفة أنظمة وبلداناً في الشرق والجنوب إلا دماراً للشعوب المعاقبة... ولم يكن استخدام السلاح الاقتصادي ضد الأنظمة سوى حجة لتبرير معاقبة الشعوب، كجزء من سيرورة طويلة ومعقدة يمكن تسميتها سيرورة الصدام مع الشرق والجنوب بمختلف الطرق، التي تبدأ بتنصيب وفرض أنظمة شمولية عسكرية أو قمعية في كل بلد يملك احتياطات إستراتيجية من المعادن وخامات الطاقة، أو في بلدان تحوز مواقع جيوستراتيجية ... وتنتهي بحروب أهلية وتقسيم سياسي وبهجرات جماعية ومجاعات.


اختارت أمريكا قائدة النظام العالمي معاقبة بشار وعصابته بالسلاح الاقتصادي الذي يؤثر على الشعب السوري  أكثر مما يؤثر على الأسد، فاختيار الحصار الاقتصادي لم يأت عبثاً، فهو أسلوب جربته أمريكا في بلدان عديدة ونتج عنه كوارث على المستويات الاجتماعية والإنسانية والصحية وحتى الديمغرافية.


ففي بحث اجتماعي على غاية من الأهمية أجراه باحث سوري، تناول البحث مسألة انقطاع الكهرباء وندرة موارد الطاقة في سوريا، وتأثير الندرة والفقدان على حياة السوريين، وعلى سلوك ومصير عينة البحث.


انتهى الباحث إلى نتائج على غاية من الخطورة تطال ليس ما هو متعارف عليه وشائع من تراجع التحصيل العلمي وارتفاع الأسعار وإغلاق الورش الصناعية وتفشي البطالة وهجرة الشباب وتغير بعض العادات اليومية، بل كشف البحث عن تغيرات سلبية طالت السوريين من قبيل ازدياد عدد جرائم السرقة والتحرش والدعارة... فأصبحت حياة السوريين لا تطاق.. الأمر الذي دفع سياسياً معارضاً هو الدكتور رياض نعسان آغا للقول في لقاء له مع قناة المشهد إن العقوبات الأمريكية موجهة للشعب السوري ولا تطال النظام.

والحقيقة لم تؤد هذه العقوبات على الشعب السوري إلا لمزيد من التضييق يدفع الشباب للهجرة من أرضه باتجاه ألمانيا تحديداً وأوروبا عموماً، ولتصبح الهجرة حلماً مشتركاً لمعظم السوريين، فلو فتحت المنافذ الحدودية فلن يبقى شاب ولا شابة في البلاد، وبهذا فإن مأساة الشعب السوري لن تقل فظاعة عن مأساة الشعب الفلسطيني، فكلا الشعبين تجري محاولة لتهجيرهم من أرضهم التاريخية باتجاه أوروبا.


فإعلان وزيرة خارجية ألمانيا مؤخراً عن استقبال اللاجئين السوريين هو أمر جيد إنسانياً، لكنه من ناحية ثانية أمر كارثي لأنه يعني أن نزيف الشعب السوري سيستمر رغم قوارب الموت في المتوسط، وأن لا حل منظور في سوريا، وأن الأسباب التي تدفع السوريين للهجرة مستمرة، أي إن الأسد وعصابته المتحكمة بسوريا باقية حتى إفراغ سوريا من شعبها، على الأقل إفراغها من شبابها سواء أكانوا أيدٍ عاملة أم كوادر وخبرات.

سوريا تخسر نصف شعبها

والفراغ السكاني الحاصل في سوريا التي خسرت نصف شعبها، ربما يثير شهية ملئه بمستوطنين تأتي بهم إيران ودول أخرى ربما، فيختم الصراع على سوريا بطريقة تحقق أهدافاً لم يكن يتخيلها أي من المتصارعين أنفسهم بداية الحرب، نقصد بذلك ليس فقط التغيير الديمغرافي بتهجير جزء من السكان، بل بالاستيطان الإيراني- على شاكلة الاستيطان في جنوب إفريقيا، وفي فلسطين،... وهي سياسة لو نفذت فهي تتجاوز التغيير الديمغرافي، إلى سياسة الاستبدال بحيث يتم استبدال شعب بمستوطنين يتحولون مع الزمن إلى شعب بديل أو شعب محلي، ومن ثم يجري تقديمهم على أنهم جزء من الشعب الأصلي.

وليس أمام السوريين في مواجهة سياسة الاستيطان بعيد الأمد أو سياسة الاستبدال إلا التشبث بأرضهم رغم كل الظروف القاهرة المادية والمعنوية، ففي مواجهة هكذا تحدٍّ تاريخي تطور الشعوب عادة طرق مواجهة جذرية، وبالنسبة للشعب العربي السوري المسلم لن يفتقد الوسيلة والحيلة للمواجهة، كأن يعتبر التشبث بالأرض جهاداً أو نوعاً جديداً يضاف للجهاد الديني... جهاد الصبر والتمسك بالمكان، مثلاً.


والحق يقال أن أصواتاً أوروبية وأمريكية أشارت مؤخراً إلى تأثير العقوبات الأمريكية على الشعب السوري أضعاف تأثيرها على النظام، منهم نائب أمريكي، ومبعوثة بريطانية لمنظمة دولية إلى مناطق شمال غرب سوريا، لكن هذه الأصوات القليلة، لا تؤثر في المنحى العام وإن كانت تقدم للمحاصرين رسالة تعاطف، كما ثبت من خلال التجربة وفي حالات عديدة مشابهة، وهي ليست سوى وسيلة لتنفيس احتقان الرأي العام وتضليله، ومع ذلك فهي بالنسبة لضحايا الحصار الذين سيموتون ببطء من الجوع أو المرض أو القهر ...تبقى بارقة أمل ونوع من إبر التخدير.


وفي مقاربة لتبيان خطل الموقف الأمريكي من سوريا واختيارها الحصار الاقتصادي في مواجهة السوريين نستذكر موقف النظام العصابة وطريقة تعامله مع السوريين.


فبعد ظهور المجموعات الإسلامية في الثورة وبحجة ثلاثمئة مقاتل إسلامي دخلوا مدينة حمص ومن بعدها مدينة حلب قصفت قوات بشار الأسد المدينتين وهجّرت منهما مليوني سوري ودمرت نصفهما. فلو دخلت عصابة من اللصوص مدينة أمريكية وتمترست داخلها، هل ستقصف القوات الامريكية المدينة أم تقطع عنها الكهرباء والمواد الغذائية؟ والجواب: بالطبع لا . فلماذا تفرض أمريكا إذاً قانوناً يعاقب السوريين فتمنع عنهم الطاقة والكهرباء والأدوات اللازمة للإنتاج، بحجة وجود نظام-عصابة حاكمة تتحكم بسوريا تقتل وتعتقل وتنتج المخدرات؟ ألا يكون أسلوب أمريكا في حصار السوريين شبيهاً بسلوك الأسد في قصف حمص وحلب وباقي المدن السورية؟ 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات