قد يجد المستغرقون بالماورائيات قسطاً واضح الدلالة في إعدام صدام حسين الرئيس العراقي السابق فجر أول أيام عيد الأضحى من العام 2006، وقد يربطون توقيت الإعدام بفكرة الأضحية الإبراهيميّة كقربان طقسيّ يمهّد لعهد جديد، أو لصيغة تعاقدية جديدة. بينما يعتبر الواقعيون توقيت ذاك الحدث مجرد مصادفة لم تحتشد قوى الطبيعة لأجل صياغتها، ولم يؤثر في تكوينها الانقلابُ الشتوي القريب منها، إذ إن الإعدام حدث في آخر يوم من ذاك العام، ليصير بعدها دنوّ عيد الأضحى، أو حتى اقتراب مجيئه مناسبةً قد تحمل الجزع إلى قلوب الطغاة غير المطمئنة للسياسة الأمريكية بعمقها المراوغ، وربما أيضاً قد لا يجد النظام السوري حالياً من يقرضه المزيد من الوقت ليُتمّ ما بدأ هدمه، ليس لأن الحلقة رقم عشرين من محادثات أستانة قد انتهت دون أن يقطف أبطال هذا المسلسل المُملّ أيّة ثمار تُذكر، بل لأن النظام السياسي في سوريا هو نظامٌ وظيفيّ، متكيّفٌ مع إتقان نماذج مختلفة من التخريب الممنهج، عاجزٌ عن بلوغ أيّ من ملامح التطوّر والتجدد ولو بصورة شكلية مزوّرة، نظامٌ مُمرضٌ لكل ما يحيط به، يريد فقط تصديق أن الجميع يقدّم له الأضاحي لكي يبقى!!
موّال العرب لم يُطرب الأوروبيين!
يبدو أن الأوروبيين أكثر نضوجاً من عرب الجوار في فهم طبيعة النظام السوري، ورفض مصافحته مجدداً بعد كلّ الذي فعل، إذ يجدون فيه حالةً سياسية يصعب هضمها، أو حتى تفكيكها إلى مكوّنات أكثر بساطة لأجل استساغتها، فهم غير مطالبين إذاً بتحمّل وعكة صحية قاسية قد تُلّمُ بهم إن قَبِلوه مجدداً، أسوةً بما فعلت المبادرة العربية للتطبيع معه، وهذا نجده بوفرةٍ حين تقرر تأجيل الاجتماع الوزاري الأوروبي العربي السادس بسبب إعادة النظام السوري إلى شغل مقعده في الجامعة العربية، ولم يجد "جوزيب بوريل" مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي حرجاً من مكاشفة أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية حين التقاه في القاهرة مؤخراً بالامتعاض الأوروبي حيال مسألة عودة نظام دمشق إلى الحضن العربي، وإن لم يتحدث "بوريل" صراحةً عن تلك الأصالة في السياسة الأوروبية، لكن يمكننا لمسها بيُسر لدى قراءة المحددات العامة لسياسة دول الاتحاد الأوروبي الخارجية، موقفهم ذاك لا يمكن إعرابه كردّ فعل ناجم عن تصريحات النظام السوري الداعمة لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، إذ يعلمون جيداً مدى تبعية هذا النظام لروسيا، تبعيّة الذَّنَبِ للرأس وبالتالي لا يجدون في هذا سبباً لنفورهم من بشار الأسد. لديهم تقاليد سياسية عريقة، ورأيٌ عام لا ينسجم مع تأييد الأنظمة القمعية، ولا يجد سبباً منطقياً للترحيب بها، أو ملاطفتها على أيّ حال، "فالموّال" الذي غنّاه العرب في "جدّة" بدا عاجزاً عن إطراب الأوروبيين في قارتهم العجوز.
معايدة النظام السوري بعقوبات جديدة!
بالرغم من لحاق معظم الأنظمة العربية بموضة التطبيع مع النظام السوري، غير أن هذا لم يكن كافياً لطمأنة رأس النظام، وتحريره من مخاوفه بالصورة الكافية، ولا سيما بعد العقوبات البريطانية الأخيرة الخاصة بتجميد أصول كلّ من العماد علي محمود عباس وزير دفاع النظام، والعماد عبد الكريم محمود إبراهيم رئيس أركان قوات النظام، وكذلك منعهما من السفر جرّاء ما لقيه مدنيون سوريون من اغتصاب وعنف جنسي داخل مراكز الاعتقال وخارجها، والتي وجدت فيها العقوبات عملاً مُمنهجاً ومدبّراً بعناية لغايات إذلال الذات الإنسانية والتنكيل بفطرتها النقيّة، وكان قد سبق هذه العقوبات البريطانية جهودٌ في مجلس النواب الأمريكي لطرح مشروع قرار يدعو إلى إنشاء محكمة دولية خاصة لمقاضاة نظام الأسد على جرائمه بحق الإنسانية، والتي ارتكبها طيلة العقد الماضي ضد الشعب السوري.
تبحث الولايات المتحدة إذاً عن الحلّ الأقل كلفة لها بما يخصّ الملف السوري، فهي دخلت سوريا لكي تفرض على جميع اللاعبين الدوليين والإقليميين قواعد لعبتها هي، لا لعبتهم هم. لذلك نجدها وقد نشطت مؤخراً في منطقة شرق سوريا كمعايدة إضافية لنظام بشار، في خضمّ إيحائها باستعدادات جادة لعملية عسكرية واسعة تقوم بها ضد المليشيات الإيرانية المنتشرة على مقربة من الحدود السورية العراقية، والتي تسيطر على الطريق الدولي الذي يصل بين البلدين، ونجدها تنسج لأجل إتمام ذلك كلّ التحالفات الممكنة، توحي وقد لا تفعل! تراوغ الجميع وقد لا تُقدم على أي فعل! لكنها تستطيع معايدة من تشاء، وعلى طريقتها الخاصة، وهذا جلُّ ما يخشاه رأس النظام السوري.
التعليقات (0)