أثار تصريح الخارجية الكازاخستانية حول توقف كازاخستان عن استقبال جولات "مسار أستانا" الخاص بالملف السوري تكهنات واسعة، وفتح باب التساؤلات واسعاً حول أسباب هذا التصريح وأهدافه وتوقيته، خاصة مع إعراب الجانب الروسي عن "تفاجئه" من هذا التصريح، في وقت تبدو فيه المسألة السورية مفتوحة على الكثير من الاحتمالات.
وقبل صدور البيان الختامي للجولة العشرين من اجتماعات المسار الخاص الذي استحدثته كل من روسيا وإيران وتركيا عام 2017، أعلن نائب الوزير الكازاخستاني (كانت توميش) صباح أمس الأربعاء أن هذا الاجتماع الذي يعقد في عاصمة بلاده، سيكون الأخير في إطار صيغة أستانا.
وقال توميش في الجلسة العامة: "قررنا الإعلان رسمياً أن الاجتماع الدولي الـ20 حول سوريا هو آخر اجتماع ضمن صيغة أستانا، واقترحنا إدراج هذا القرار في البيان المشترك".
لكن البيان الختامي لم يتضمن الإعلان عن وفاة المسار، بل وأكثر من ذلك، أبدت روسيا "صدمتها" من إعلان المسؤول الكازاخي ذلك، وقالت إن "قرار إنهاء الاجتماعات حول سوريا بصيغة أستانا جاء بمبادرة من الجانب الكازاخستاني ودون مشاورة بقية الأطراف".
من جانبه، أكد البيان المشترك الصادر في ختام اللقاء مساء الأربعاء، أن طهران وأنقرة وموسكو اتفقت على عقد الجولة القادمة قبل نهاية العام 2023.
الموقف الروسي بدا مرتبكاً من حيث الشكل، حيث أكد مبعوث الرئيس الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتيف أن بلاده "متمسكة بصيغة أستانا التي ستواصل عملها"، مشيراً إلى أن هذه الصيغة ليست مرتبطة بمكان معين، وأنه سيتم البحث عن ساحة جديدة لعقد اللقاء القادم.
أسباب ودوافع كازاخستان
سؤال كبير طرحه جميع الصحفيين الذي حضروا تغطية الاجتماع في أستانا: ما هي الأسباب التي دفعت الحكومة الكازخية إلى إعلان الانسحاب من المسار؟. لكن السؤال أجابت عليه الخارجية الكازاخية بتبسيط شديد، حيث أكدت أن "القرار يعود إلى أن عملية صيغة أستانا نجحت في تنفيذ مهمتها".
وأضافت: "عودة سوريا للجامعة العربية، وعودة العلاقات العربية مع دمشق، يعتبر أحد منجزات العمل الحثيث الذي قامت به وفود الدول في مسار أستانا".
لا إجابة مقنعة إذن تقدمها كازاخستان على هذا السؤال، الذي بقي بسبب ذلك، ورغم كل التصريحات من حكومة أستانا، وكذلك من جانب موسكو التي تباينت التقديرات حول حقيقة موقفها من هذا الإعلان المفاجئ، بقي غامضاً.
في التحليلات تطرح عدة احتمالات لكن أبرزها ثلاثة:
- الاحتمال الأول أن تكون كازاخستان قد تعرضت لضغط أمريكي من أجل التوقف عن استضافة اجتماعات المسار، حيث يرى أصحاب هذا السيناريو أن مجرد سحب أستانا يدها منه سيوجه ضربة معنوية كبيرة له، وسيضطر رعاته، وخاصة الروس والإيرانيين، إلى إطلاق اسم جديد عليه، ما يعني تدميره على المدى المنظور.
لكن الإشكال الذي يواجه هذا السيناريو هو حقيقة النفوذ الأمريكي لدى الجانب الكازاخي، إذ وعلى الرغم من المحاولات السابقة لأستانا من أجل الخروج من الهيمنة الروسية، والتوجه غرباً، إلا أن هذه المحاولات تلقت صفعة قوية جداً مع المظاهرات التي عمت البلاد في عام 2021 وأجبرت الحكومة على الاستعانة بموسكو التي أرسلت آلاف الجنود للسيطرة على الموقف.
- الاحتمال الثاني: أن كازاخستان استجابت للمطالب العربية بوضع العصي في عجلات مسار أستانا، وذلك خلال الجولة الأخيرة لوزير خارجيتها التي شملت عدداً من بلدان الخليج العربي، من أجل تعزيز فرص المبادرة العربية للحل في سوريا، وقطع الطريق على حل تكون إيران وتركيا صانعتاه.
سيناريو يواجه إشكالاً آخر بدوره، حيث تجمع أستانا وأنقرة علاقة مميزة، أو على الأقل علاقات ذات أبعاد أعمق بكثير مما يجمعها بدول الخليج العربي، ناهيك عن أن المسار المطروح عربياً لا يتعارض كما يبدو مع توجهات صيغة أستانا.
- يبقى الاحتمال الثالث الذي يُتكهن بأن روسيا نفسها هي من طلبت من كازاخستان القيام بهذا التصرف، تمهيداً لإعلان نهاية مسار أستانا ودمجه مع مسار الحل العربي المطروح حالياً، الأمر الذي سيعجل من إنجاز الأمر، خاصة وأن تيار التطبيع العربي مع نظام ميليشيا أسد بات على انسجام كبير مع الروس والإيرانيين، ومع الصين بطبيعة الحال، مقابل تمسك الأوربيين بمسار جنيف، بينما تبدو أمريكا راضية عما يفعله هذا التيار وعن المبادرة العربية حتى الآن، هذا إن لم تكن تدعمها، وبذلك فهي تلتقي مع روسيا رغم كل الخلافات الناشبة بينهما.
الخروج من الماضي
الكاتب السياسي المتخصص بشؤون دول الاتحاد السوفيتي السابق (طه العبد الواحد) يرى أنه لفهم طبيعة القرار الكازاخستاني، لا بد من العودة إلى بدايات تشكيل مسار أستانا، مؤكداً أن هناك سببين لهذا القرار.
ويقول في تصريح خاص لـ"أورينت نت": كازاخستان وافقت على استضافة المسار في عهد الرئيس السابق (نور سلطان نزارباييف) الذي بنى أستانا على الطراز الحديث، وأرادها أن تكون عاصمة عالمية للتفاوض حول القضايا الإقليمية والدولية، ولذلك فهو أطلق عليها اسمه قبل استقالته.
ويدلل العبد الواحد على ذلك الهوس للرئيس الكازاخي السابق بتنافسه مع بيلاروسيا من أجل احتضان المفاوضات الروسية-الأوكرانية حول إقليم مينسك عام 2014.
ويضيف: لكن هذا النهج تغير بعد رحيل نزارباييف عن السلطة، حيث ظهرت معالم نهج جديد في السياسة الخارجية لكازاخستان مع الرئيس الحالي، الذي يحاول أن يوازن في علاقات بلاده بين الغرب وبين روسيا، كما إنه لا يبدي أي طموحات للعب أدوار كبيرة تضع بلاده في واجهة الأحداث والقضايا الكبيرة.
أما السبب المباشر، كما يعتقد طه العبد الواحد، فهو أن الكازاخيين اقتنعوا بأن الاجتماعات التي تستضيفها بلادهم لا تحقق أي نتائج بالفعل، وأنها مجرد لقاءات بين ممثلي الدول الثلاث الراعية للمسار من أجل إدارة الملف السوري فيما بينها، وليست مسار حل حقيقي بين الأطراف السورية نفسها، مشيراً إلى أنه لو كانت صيغة أستانا قد حققت أي نتائج عملية بما يخص القضية السورية لاستمرت كازاخستان باستضافت اجتماعاتها حتى النهاية.
تزامن غير بريء
اللافت أن هذا الإعلان تزامن مع عدة تطورات تبدو على صلة وثيقة بالأمر، حيث سبق انطلاق الجولة العشرين من اجتماعات أستانا لقاء بين وزيري خارجية قطر وإيران، وحديث عن نقل مقر مفاوضات اللجنة الدستورية السورية من مدينة جنيف السويسرية كما تصر روسيا، بالإضافة إلى تحديد موعد مبدئي للاجتماع الثاني للجنة المبادرة العربية حول سوريا.
فيما يتعلق بلقاء وزيري خارجية إيران وقطر، كشفت مصادر ديبلوماسية عربية عن وساطة طهران لتطبيع العلاقات بين الدوحة ودمشق، مضيفة أن الوزير الإيراني عرض على نظيره القطري أن تكون الدوحة هي مكان التفاوض الجديد حول المسألة السورية.
ورغم عدم صدور أي تصريحات رسمية بهذا الخصوص، إلا أن هذه التسريبات تعيد إلى الأذهان اللقاء الذي عقد في العاصمة القطرية في آذار/مارس 2022 والذي جمع وزراء خارجية كل من روسيا وتركيا وقطر، حيث روج وقتها لانتهاء مفعول مسار أستانا والاستعداد لإطلاق مسار الدوحة بدلاً عنه.
لكن بغض النظر عن صحة هذه المعلومات، فإن ما يبدو أنه بات مؤكداً أن رعاة مفاوضات اللجنة الدستورية يبحثون بالفعل عن مكان جديد لاستضافته بدلاً من جنيف، بسبب ما تقول روسيا إنه "موقف عدائي لسويسرا تجاهها" بسبب الحرب التي شنتها على أوكرانيا.
ورغم إبلاغ مصدر مسؤول في هيئة التفاوض السورية المعارضة الصحفيين بعدم تلقي الهيئة أي طلب أو عرض بهذا الخصوص، إلا أن أعضاء في الهيئة أكدوا لـ"أورينت نت" أن المبعوث الدولي إلى سوريا (غير بيدرسون) اقترح بشكل غير رسمي عدة عواصم عربية كبديل، من بينها القاهرة والرياض، لكن النظام يفضّل مسقط.
إلا أن عدم اهتمام الكثيرين بمسار اللجنة الدستورية جعل هذا الخبر خارج الاهتمام، مقابل التساؤل عن مصير مبادرة الحل العربي، ودور الدول المنخرطة فيها بإحداث كل هذه الجلبة في الوقت الحالي.
مصادر خاصة كشفت لـ"أورينت نت" أن اتصالات مستمرة تجري بهدوء بين بعض الدول العربية ونظام ميليشيا أسد للبدء بتنفيذ بنود المبادرة، التي لم تحدد بشكل نهائي، أو لم يتم الإعلان عنها رسمياً حتى الآن، وتركت للتكهنات.
المصادر أكدت أن المباحثات التمهيدية يبدو أنها مشجعة للأردن والسعودية بالدرجة الأولى، الأمر الذي يدفع دول لجنة المتابعة للمضي قدماً في مسارٍ تعلم هذه الدول مسبقاً أنه سيكون شاقاً بسبب طبيعة نظام أسد، كما كشفت عن أن الاجتماع الثاني للجنة المتابعة سيعقد بعد عيد الأضحى، وقد تسبقه زيارات لبعض المسؤولين العرب إلى دمشق من أجل تشجيع النظام على الانخراط الجدي في المبادرة قبل إنجاز التطبيع الكامل معه.
المحلل السياسي المصري بشير عبد الفتاح، رجّح هذه المعطيات خلال حديث خاص مع "أورينت نت"، مشيراً إلى أن هناك رضا عربي مبدئي بالفعل على خطوات عملية نفذها النظام بما يخص ضبط الحدود وملف تهريب المخدرات، واعتبرت بأنها مشجعة.
وأضاف: موقف الجامعة العربية بهذا الخصوص واضح، وهو أنه لا تطبيع كاملاً قبل إنجاز النظام السوري ما هو مطلوب منه على أساس مبدأ (الخطوة مقابل خطوة)، بمعنى أن الجامعة تريد أن يبقى موقفها متوازناً، وأن يقوم للنظام بالتزاماته فيما يتعلق بالحل السياسي والتوقف عن التنكيل بشعبه قبل العمل مع الدول الغربية لرفع العقوبات المفروضة عليه أو تخفيفها، والبدء بعملية إعادة الإعمار في سوريا.
لكن عبد الفتاح يؤكد في الوقت نفسه أن الملف السوري بات ضاغطاً وبقوة على الأقليم، وتحديداً دول الجوار فيما يتعلق بملفات الأمن والمخدرات وعودة اللاجئين، التي تعتبر أولويات العرب حالياً، يليها بعد ذلك ملف الحل السياسي.
لا يمكن إذاً فصل كل هذه الأحداث التي تدفق سيلها بشكل متزامن عن بعضها البعض، ومن الواضح أن هناك من يتحكم بجريانها الذي لا يمكن أن يكون صدفة، ولذلك فإن تركيا تبدو أكثر المتخوفين مما يجري، حيث تخشى أن يكون (عرب التطبيع) قد عقدوا صفقة مع كل من الولايات المتحدة وروسيا من أجل إنفاذ مبادرتهم التي تتجاهل المعارضة المدعومة من قبلها، حيث تشكك أنقرة في دوافع كازاخستان لإعلان توقف مسار أستانا، من أجل إتاحة الفرصة لمسار جديد لا تكون المعارضة جزء منه، حتى وإن كان شكلياً كما يحدث الآن في المسار الذي بات مستقبله على المحك، لصالح مخاض قد يلد مساراً جديداً.
التعليقات (3)