أعلنت اليونان الحداد ثلاثة أيام على ضحايا القارب الغارق الذي يغص بمئات من المهاجرين غير الشرعيين ومحملاً بأكثر من عشرة أضعاف حمولته الطبيعية قبالة السواحل الجنوبية الغربية لليونان، والذي لم تُحص الأعداد النهائية لضحاياه بعد مرور ثلاثة أيام على الكارثة.
لكن لدى الغوص في التفاصيل تدرك أن هذا الإعلان لم يكن إلا محاولة لإظهار التضامن الإنساني المتوجب مع الضحايا، ولجعل الأمر محض كارثة حدثت بفعل عوامل مختلفة اجتمعت في لحظة ما لتفضي إلى تلك النتيجة الكارثية، وبطبيعة الحال ليس من بين هذه العوامل اللامبالاة وسوء التصرف اليونانيين، بل هو القدر والحمولة الزائدة ورفض المهاجرين أنفسهم العون اليوناني لا أكثر!.
وبالتالي فإنه من الواضح تماماً أن السلطات اليونانية تحاول التنصل من المسؤولية، خصوصاً بعدما بدأت تتضح معالم وحجم الكارثة وما تحدثه من ردود فعل دولية محلية ودولية. ففي أثينا العاصمة اليونانية خرجت مظاهرات نظمتها أحزاب المعارضة والمنظمات الحقوقية عبّرت فيها عن رسالة لوم شديد لحكومتهم على أدائها المريع وغير الأخلاقي واللا قانوني بشأن طريقة استجابتها لأزمة المركب، سواء لجهة اكتفائها بداية بتقديم معونات عينية في وقت كان المركب يغالب الأمواج ولا يغلبها، وعندما قررت سحب المركب بعد مضي وقت ثمين سحبته بطريقة لا تلبي متطلبات الحماية من الغرق وهو الذي ينوء بحمل أكثر من سبعمائة وخمسين شخصاً، أي أكثر من طاقته الاستيعابية بعشرة أضعاف، وكان الأولى بها إفراغه ابتداءً من النساء والأطفال على أقل تقدير لتخفف من حمولته، وألا تبدأ عملية السحب قبل وصول قوات ومراكب الدعم تحسباً لتطورات من قبيل انقلاب المركب، فيكون التدخل والإنقاذ سهلاً وعاجلاً، وهي أمور فنية وتقنية لو روعيت لما بلغ عدد الضحايا هذا العدد المهول.
على أية حال ليست تلك المرة الأولى التي ترتكب فيها قوات حرس الحدود البحرية اليونانية جرائم بالمعنى الحرفي للكلمة بحق مهاجرين غير شرعيين، فلطالما شهد نهر (إيفروس)، وهو الفاصل بين الحدود التركية اليونانية، اعتداءات بدنية شديدة على العابرين من تركيا لليونان، وإجبارهم على العودة للأراضي التركية عراة مسلوبي الأموال والهواتف والمقتنيات، كما أفضت بعض الاعتداءات لمقتل العديد من المهاجرين ضرباً أو إغراقاً في النهر.
والحقيقة أن اليونان ليست وحدها من تتحمل المسؤولية عن مئات حالات غرق مراكب الهجرة غير الشرعية، بل إن دول الاتحاد الأوروبي نفسه تتحمل قسطاً من تلك المسؤولية عندما تشرّع قوانينا تخالف قوانينها الوطنية والتزاماتها القانونية المترتبة عليها بموجب مواثيق دولية ألزمت نفسها بها، فقط لتواجه جائحة الهجرة واللجوء، ودون أن تبتكر سبلاً لاستقبال طلبات المهاجرين واللاجئين والتعجل في البت فيها لتجنيب هؤلاء مخاطر ركوب البحر.
كما يتحمل الاتحاد الأوروبي إلى جانب دول أخرى من صانعي القرار الدولي ومنظماته الدولية، بوصفه كياناً وازناً في المعادلات السياسية والقانونية الدولية، وبوصفه أيضاً المتضرر الأكبر من موجات الهجرة غير الشرعية وأعباء ملايين من المهاجرين واللاجئين المالية والاقتصادية والسياسية، مسؤولية عدم مواجهة هذه الجائحة في دول المنبع نفسه الطاردة لشعوبها، سواء لأسباب اقتصادية صرفة أو لأسباب سياسية واضطهاد الحكومات لشعوبها، فمن مقتضيات ذلك طرح مقاربة مختلفة لمواجهة موجات اللجوء أو الهجرة الاقتصادية تبدأ برفض التعامل مع النظم السلطوية التي لا تقيم وزناً للحدود الدنيا لحقوق الإنسان، ورفض تقديم أي شكل من أشكال الدعم لها على مختلف المستويات، بل والعمل على تحجيمها وإسقاطها إن اقتضت الحاجة ذلك، وتقديم كل أشكال العون ودعم التنمية وخلق فرص عمل في مواطن هؤلاء من خلال الاستثمار غير الجائر الذي تعتمده الآن لديمومة رفاهها وحدها على حساب حاجات الشعوب وحقها بالعيش الآمن الكريم.
وعليها أن تدرك أنه لا يمكن التوفيق بين استغلالها لثروات الشعوب وتنصيب حكومات عميلة لها وتجييرها لنتائج ذلك لتحقيق الرفاه لشعوبها وبين حرمان ضحايا تلك السياسات من حقهم في البحث عن ملاذات آمنة وفرص عيش تلبي الحدود الدنيا لحاجات هؤلاء البشر، وذلك تحت مسمى محاربة الهجرة غير الشرعية! فطالما هناك ديكتاتوريات محسوبة عليها ومدعومة منها، وطالما هناك نهب واستنزاف اقتصادي لاقتصادات الدول الفقيرة في سبيل رفاه شعوب الشمال، فلن تقف قوافل مراكب المهاجرين ولا الباحثين عن فرص عيش آمن.
وإلى أن يستفيق الضمير الإنساني ستبقى ثمة مراكب تمخر عباب البحار شمالاً، وسيغرق الكثير منها ويغرق معه آلافاً من البشر الذين أوجدهم حظهم العاثر في بقعة من الكرة الأرضية لا يقام فيها وزن لبشر أو قيمة لحياة، وسيستمر القاتل يمشي مطرقاً متصنعاً للحزن في جنازة قتلاه!.
التعليقات (3)