بلينكن في الخليج: هل يمكن التعويل على التصريحات أو الخطوات الأمريكية؟

بلينكن في الخليج: هل يمكن التعويل على التصريحات أو الخطوات الأمريكية؟

في أكثر من حادثة أمنية تعرض فيها أمن دول الخليج العربي للخطر؛ لم يكن رد الفعل الأمريكي معبراً عن طبيعة العلاقة الإستراتيجية العميقة بين هذه الدول والولايات المتحدة، بل كانت ردود الأفعال الفاترة مصدر قلق وامتعاض من قبل هذه الدول التي لطالما اعتبرت نفسها تستظل بالمظلة الأمنية التي توفرها الولايات المتحدة للمنطقة. بالإضافة إلى ذلك، كان لتصريحات الرئيس الأمريكي "جو بايدن" المستفزة للحكومة السعودية، والتي تعهد فيها أن يجعل من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان شخصاً معزولاً دوراً حاسماً في دخول العلاقات بين السعودية ومعها دول الخليج من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى مرحلة من الجفاء.

لم يكن السلوك الأمريكي وليد اللحظة، فقد سبقته الكثير من الإرهاصات والمؤشرات التي توحي به؛ بدأت منذ عهد "أوباما" الذي أعلن عن نية الولايات المتحدة التخفف من بعض التزاماتها تجاه منطقة الشرق الأوسط بشكل عام.

 وفيما كان بعض المحللين يكاد لا يصدق هذا الطرح، ما لبثت أن أصبحت فكرة تراجع الأهمية النسبية لمنطقة الشرق الأوسط من المسلمات، وراح البعض يعدد الأسباب وراء هذا التراجع. فعلى سبيل المثال: نشرت صحيفة "الفورين بوليسي" الأمريكية مقالاً تحليلياً ذكرت فيه ستة أسباب لما أسمته تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ولسياساتها الخارجية، وأهم هذه الأسباب، حسب كاتب المقال "آرون دافيد ميلر"، الكاتب والمحلل الأمريكي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، هي: انتهاء الحرب الباردة، وزوال فزاعة الإرهاب، وتدني أهمية النفط الخليجي وخسارة أمريكا لحلفائها العرب، بالإضافة إلى قوة إسرائيل المتزايدة.

الحرب على أوكرانيا والنظرة الأمريكية القاصرة

بلغت الجدية الأمريكية في النظر إلى منطقة الشرق الأوسط كمنطقة هامشية ذروتها في عهد الرئيس "بايدن"، إلا أن الحرب الأوكرانية بما أحدثته من اضطراب في أسواق الطاقة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن تلك النظرة (تراجع أهمية الشرق الأوسط) هي نظرة قاصرة، أو هي فكرة غير قابلة للتنفيذ. وكان للجرأة التي أبداها بعض حكام الخليج العربي في مناكفة أمريكا دور حاسم في اضطرار الولايات المتحدة لمراجعة مواقفها وإستراتيجياتها المعلنة وغير المعلنة، وهكذا بدأ المسؤولون الأمريكيون الكبار بالتقاطر إلى الرياض وباقي العواصم الخليجية واحداً تلو الآخر، وكان آخر هؤلاء وزير الخارجية الأمريكي "أنطوني بلينكن" الذي أكد خلال لقائه بوزراء خارجية دول الخليج العربي أن الولايات المتحدة لا تزال منخرطة بعمق في الشراكات مع دول الخليج.

رغم ذلك؛ يبقى السؤال الملح: ما الذي تستطيع الولايات المتحدة أن تقدمه لهذه الدول؟ وهل كان قرارها بالتخفف من التزاماتها في منطقة الشرق الأوسط ناتجاً عن غباء أم عن ضعف؟

في الواقع؛ شكّل الصعود الصاروخي للصين كابوساً مرعباً للولايات المتحدة، ودفعها للشعور بالحاجة إلى مضاعفة وتكريس تواجدها في منطقة بحر الصين نتيجة الصراع المتصاعد بين القوتين العظميين، وهذا يعني إما رصد المزيد من الموارد، أو إعادة توزيع الموارد المتاحة، وفي ظل الصعوبة البالغة في تأمين مزيد من الموارد وجدت الإدارة الأمريكية نفسها مضطرة لإعادة توزيع الموارد. أي، نقل بعض تلك الموارد من مناطق أقل أهمية إلى مناطق أكثر أهمية، وفي تبرير تلك الخطوة لا بد للإدارة الأمريكية وبعض المحللين الإستراتيجيين من تقديم بعض المسوغات في محاولة لإقناع الذات أولاً، وإقناع بعض المعترضين ثانياً. 

إذن، فالنظرة الأمريكية المستجدة لمنطقة الشرق الأوسط ناتجة عن عجز وضعف أكثر من كونها نتاج غباء مدقع، وهذا لا ينفي أن السياسة الأمريكية تتسم بالغباء عموماً. من هنا يمكن القول: إن الولايات المتحدة لن تستطيع أن تقدم لدول الخليج سوى الكلام المعسول وبعض الخدمات التي لا تلبي طموح هذه الدول؛ فعلى سبيل المثال: منذ أيام أعلنت دولة الإمارات العربية انسحابها من قوّة بحرية مشتركة تقودها الولايات المتحدة في منطقة الخليج؛ محتجة أن هذه القوة لم تتخذ أية خطوات عقابية رغم تكرار الحوادث الأمنية التي تقودها إيران في المنطقة؛ علما أن القوة مهمتها مكافحة المخدرات ومكافحة التهريب وقمع القرصنة. والسؤال هنا: هل يمكن للولايات المتحدة أن تتعهد لدولة الإمارات أنها من الآن فصاعداً سوف تقمع مثل هذه التصرفات؟ الجواب: قطعاً لا؛ لأن الولايات المتحدة تعلنها على رؤوس الأشهاد، إنها مصابة بـ "فوبيا الحرب".

بعد أن تفكك الاتحاد السوفييتي ظن الأمريكيون أنهم أصبحوا أسياد العالم من غير منازع؛ إذ إن الانتصار في الحرب الباردة صار أمراً يغري بالزهو، وبالاعتقاد بالهيمنة الأمريكية على حد تعبير "كيسنجر". لكن الأحداث والمتغيرات التي جاءت لاحقاً أثبتت أن تفكك الاتحاد السوفييتي ضاعف أعباء الولايات المتحدة، وأورثها عالماً مترامي الأطراف تحتاج إدارته لموارد تفوق كثيراً ما يمكن للولايات المتحدة أن ترصده. وهكذا أصبحت الولايات المتحدة لا تدري ماذا تفعل وهي تشعر بالعجز. 

لم تعد صورة الولايات المتحدة الجديدة تتطابق مع الصورة التي رُسمت في الأذهان إبان الحرب العراقية، فأمريكا اليوم دولة في مرحلة تراجع القوة النسبية. لذلك، لا يمكن التعويل على التصريحات التي يدلي بها مسؤولوها، ولا التعويل على بعض الخطوات التي تتخذها، بل يجب تفسير كل ذلك من خلال النظر إليه ضمن أدنى سقف من التوقعات.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات