عُنف دول الربيع العربي أنتج بدائل أعنف منها

عُنف دول الربيع العربي أنتج بدائل أعنف منها

يُشير العنف المنتشر بكثرة في حواضن البلاد العربية، المبتلية بكل أشكال العسف والفقر والتجهيل، لحالة الفزع والرعب والهول؛ فهو يقود المخيلة دوماً لأقصى درجات وأشكال وصور الرعب المتمثلة بالاعتقال والتعذيب والقتل على الهويّة. وهو ما يخلق فظاعة في التفكير الحداثي بغض النظر عن المعتقدات والانتماءات والهويّات. وتقاطعت نتائج الكثير من النظريات والأبحاث حول أسباب انتشار العنف وجذوره، في دور التربية والتعليم والفقر والحاجة واللأدلجة الدينية والسياسية...إلخ، لكن أعظم سببٍ للبلاء الأكبر -العنف- إنما هو عنف الدولة الذي لم يأتِ لحصار العنف الساحق لحيوات الناس، بل لتمكينها أكثر، خاصة أن من أهم وظائف أيّ دولة، أن تحمي مواطنيها من العنف، لا أن تأتي هي بالعنف. والسبب أن بنية الدولة العربية المعاصرة فاقدة لمفهوم دولة القانون، ولا داعي حينها من الحديث عن الديمقراطية والحرية والعدالة والمساواة والهويّة الجامعة، ومستويات التعليم والجامعات، فيكفي القول إن العنف هو أحد أهم الركائز البنيوية لاستمرار حيازة السلطة، والحديث هنا ليس عن تخصيص دولة عن سواها، إنما كمفهوم أكدته ثورات الربيع العربي، وما شهدته من عنفٍ ممنهج.

عنف جديد لم يختلف عن عنف السلطة

الواضح أن كل حالات الحكم الطارئة/ سلطات الأمر الواقع في دول الربيع العربي، إنما نحت منحى السلطة نفسها؛ فالدولة تدّعي أو تقدّم نفسها كقوة إصلاح وتطوير وحماية في وجه التخلف والفساد والظلم، لكن مشكلة تلك الدولة أنها تحتوي على فائض كبير من العنف والظلم وغياب العدالة والعسف السياسي. كل ذلك ساهم في تمدد "داعش" وقبله تنظيم القاعدة، والجماعات التكفيرية كما حصل في أغلب الدول العربية وتحولت لفاعل ومحرك قوي في محاولة منها لرسم معالم مستقبل الدولة، ولولا حملات التصدي الشعبي والنخبوي لتلك المحاولات، لكانت حواضن هذه البلاد اليوم غارقة في أقسى درجات العنف والخروج من التاريخ. والمعضلة أنَّ هياكل الحكم التي ظهرت للعلن في مناطق تقلصت فيها سيطرة الدولة في مختلف بلدان الربيع العربي، هي الأخرى لم تكن أكيس حالاً من الدولة نفسها، بل لم تنظر لنفسها كسلطة تقوم بواجبات الرعاية والحماية. وما جني الإتاوات عنوة إلا واحد من أشكال العنف الناعم والتسلط الهادف لفرض السطوة والسيطرة، وهي أوجه مشابهة لممارسات الدولة نفسها، وبل يُمكن القول إنها إعادة المجتمعات لحالات العصبيات والبداوة، فيما لو أخذنا بالاعتبار أن الدولة العربية المعاصرة أخذت نفساً طويلاً وعقوداً من السلطة والشرعية عبر الانتخابات، والنظم السياسية، والسلك الدبلوماسي والعلاقات الدولية والإقليمية...إلخ، لتأتي الجماعات المسلحة، سلطات الأمر الواقع، هياكل حكم عسكرية أو مدنية، بإنتاج عنف بنيوي جديد يُطيح بالمجتمعات، ويخلق ثقافة مجتمعية جديدة قائمة على تبيئة العنف. خاصة أن العنف تحول لظاهرة تبحث عن أيّ حامل يساعده في التمرد على عنف السلطة نفسها ومواجهتها، بغض النظر عن الوسيلة، بما فيها لو كانت تأويلات نصية دينية خاطئة تحولت لإطار إيديولوجي، المهم بالنسبة لتلك الشعوب هو الخلاص من الظلم، ولو جاءت بظلم جديد.

هياكل حكم جديدة وفكر قديم في التعامل الاجتماعي

الغريب أن هياكل الحكم "البديلة" على طول البلاد في ظل ثورات الربيع العربي، لم تأخذ على عاتقها أن تطل على مسببات الانهيار السريع لتلك الدول، خاصة طريقة تعاملها مع الحركات الاحتجاجية والقمع الوحشي، والذي لعب دور المدماك والمحرض على إخراج والتسبب بتنامي الحركات المضادة والراديكالية في بعض الدول. والأكثر غرابة أن تلك "السلطات البديلة" لا تكترث أبداً بدور وأهمية الحركات الاجتماعية في تغذية العنف والاحتجاجات أو الحد منها. خاصة أن الحركة الاجتماعية والثقافية، يُمكن أن تتحول إلى عنفية ومواجهات مستمرة؛ لما تلقاه من قمع وعنف وضرب واعتقالات، وهي ما يُعرف في الأوساط الاكاديمية بمصطلح "التصعيد التنافسي"، أي احتدام المنافسة بين المحتجين لكسب الرأي العام ضد الخصوم السياسيين المتمثلين بالسلطة وأذرعها. وأثبتت المشاهدات والوقائع تطابق ممارسات الدولة ومن يدّعي أنه البديل الجديد، حول سرعة استخدام الشرطة والأمن للعنف، بسرعة تفوق استجابة الحكومات/هياكل الحكم، لأيّ أزمة تعصف بالبلاد فيما يتعلق بالتعليم، الصحة، وفرص العمل. وهذه كفيلة بخلق تفاعلات وردّات فعل تقود الجماهير والنُّخب إلى العنف المضاد لعنف السلطة، وبل تنطلق-القواعد الاجتماعية- من قناعة ثابتة راسخة لا بوادر لتغييرها، قناعة أنهم يعيشون في إطار عام من الظلم والمظلومية على مستوى الدولة ككل، وأنهم يعانون من الممارسات ذاتها من الحكم البديل للدولة، وأنهم يعيشون تكرار تجربة فقدان العدالة. 

قديم ذكي وجديد غبي

وإذا كانت الأنظمة العربية ذكية، وخلقت تباعداً وتمييزاً بين المكونات، وفضّلت إحداها على الأخرى، ومنحت بعضها مزايا وأحجمتها عن بعضها الآخر، فإن "الغباء" المطلق لأنظمة "الحكم البديلة" قائم على شمول الجميع بالفقر والحرمان وفقدان العدالة، فتصبح أي معارضة لتلك الهياكل شكلاً من أشكال الدفاع عن الجماعة كلها، فالعنف يوّلد المزيد من العنف، خاصة أن الحركات الاجتماعية حين تتيقن من انسداد الأفق السياسي، تشارك بكثافة في استخدام القوة، كرد فعل، بعد أن كانت تشارك كمحركة اجتماعية ثقافية ترغب بفرض أو طرح شيء جديد بطرق سلمية، وهي بداهة واضحة من تلك الحركات. فالدول التي شهدت التظاهرات كانت تتابع غيرها من الدول التي لم يقبل شعبها وشبابها العودة للمنازل قبل ضمان حريتهم وحقهم في الحياة، لكنها لم تستفد ولم تكرر سوى استخدام العنف المفرط، لدرجة أن أصبحت تلك الممارسات من سمات وأدوات وثقافة وتأريخ الدولة. وجذر رفض الحركات الاجتماعية للعنف هو ثقافي-نفسي، ورد فعل أو عنف/قوة ضد العنف العالي المستوى للدولة، والصراع بين منسوبي العنف هدفه من قبل السلطة/هياكل الحكم الجديدة المزيد من الدماء والقتل، ومن قبل تلك الحركات طريقة لإنهاء العنف وتقويض أيّ شرعية للدولة القائمة أساساً على العنف.

الأصل والبديل وجهان لعملة واحدة

وجه الشبه الآخر بين الدولة العربية وهياكل الحكم التي قالت إنها مغايرة وجديدة، هو عشق الطرفين لممارسة العنف في مناطق سيطرتهما؛ لسببين مركبين أولهما: فائض العنف الموجود لديها ولا بد من استخراجه بغية ضمان الخضوع، والثاني: الفراغ الرهيب الحاصل في أروقة الحكم؛ بسبب غياب منظومة الحوكمة والحكم الرشيد والرفاهية. وتالياً تصبح القوة والعنف والقانون أوجهاً لعملة واحدة تستخدمها السلطة وفق مزاجها وتُحكم السيطرة عليه، وتمنح نفسها الحق الكلي في ذلك، وتخلق جيشاً من المبررين لذلك العنف، وتسويغه وشرعنته، ولا بد للمواطن أن يكون تحت الرقابة والخضوع.

والمقاربة الأكثر رواجاً أو تبريراً للعنف البنيوي المركز من قبل السلطة وبدائلها، والتي يُمكن أن تكون مفتاحاً لتفسير كل هذا العنف والضغط والحصار، هي مقاربة أن المواطن مجرد تابع وكائن ضمن سلطة يحق لها التحكم بالأجساد وفق مقتضاها. هذه المقاربة تمنح السيادة والسلطة المطلقة للحاكم كي يكون خارج إطار القانون، ويخلق حالة الاستثناء له ولحاشيته، ليجد المواطن نفسه عارياً ورهناً لجبروت تلك المزايا، والمشكلة الأكبر أن تلك الاستثناءات تصبح قاعدة تُبنى عليها العلاقة بين الحاكم والمواطن، وتصبح العلاقة بينهما أشبه بعلاقة الصياد مع طريدته، لا يعرف لها وجوداً إلا لاصطيادها، والشرط الوحيد في مخيلة تلك السلطة أن بقاءها مرهون باستمرار هذا النموذج من العلاقة، وهو نوع خاص من الحرب غير المعلنة أو الواجب السكوت عنها. كل ذلك للهروب من أزماتها الداخلية، والخوف من انهيارها. 

قصارى القول: لم تشهد المجتمعات العربية سلاماً حقيقياً، والترويج الرسمي للسِّلم ليس سوى كذبة كبيرة، فالشعوب تخرج من دوامة لتدخل في غيرها، وليس من كلمة تعلو على الحرب سوى العنف، وإذا كانت السلطة منذ بواكير سيطرتها على البلاد وهي تخوض الحروب الكثيرة ضد ما تسميه بالأخطار الداخلية/الخارجية وتقمع شعوبها، وهي في صلبها هرباً من أزماتها الداخلية، فلماذا تحذو هياكل الحكم التي تقول إنها بديلة عن السلطة المسلك ذاته، وتؤسس مؤسسات لضبط سلوك وانتماءات الناس، وتشدد الرقابة، عوضاً من خلق أرضية مهيئة للدولة الوطنية والهويّة الجامعة؟.

ماذا يستفيد المواطن من استبدال الظلم والاستبداد والملاحقات بأخرى تُشبهها أو تزيد عليها في الكثير من الأحيان؟

 

التعليقات (1)

    Hani Al

    ·منذ سنة 3 أشهر
    أحسنت...
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات