مع احتدام صراع روسيا والناتو في أوكرانيا.. هل تقف كوسوفو وصربيا على شفير الحرب؟

مع احتدام صراع روسيا والناتو في أوكرانيا.. هل تقف كوسوفو وصربيا على شفير الحرب؟

أوجه متعددة للخلافات بين كوسوفو وصربيا، لكن سبب استمرار فتيلها واحد، وهو إحجام الأخيرة عن الاعتراف باستقلال كوسوفو، مدفوعة بعوامل السياسة والاقتصاد والجغرافيا، يشحنها التاريخ والإيديولوجيا ليزيدها تعقيداً، ويمنحها الصراع الروسي الغربي مزيداً من التشابك.

 خلال الأسبوع الفائت، شهد جيب متروفيتسا شمال كوسوفو اشتباكات أسفرت عن 30 مصاباً من جنود الناتو لحفظ السلام في كوسوفو، و52 صربيا إصابة ثلاثة منهم خطيرة.

وكانت الاشتباكات اندلعت بعد محاولة قوات أمن كوسوفو الاستيلاء على مباني الإدارات لتنصيب رؤساء البلديات الفائزين بانتخابات نيسان/إبريل الماضي، والتي لم تلقَ مشاركة تُذكر، نتيجة مقاطعتها من قبل "القائمة الصربية"، أكبر قوة سياسية صربية في جمهورية كوسوفو.

وفي الأثناء، وضع الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش القوات الصربية في حالة تأهب قصوى، داعياً إلى سحب "رؤساء بلديات مزعومين" في شمال كوسوفو لنزع فتيل الأزمة التي أشعلت العنف. معتبراً، أن هذه الخطوة ستكون "أقوى خطوة" لحل الأزمة. مشبّهاً رئيس وزراء كوسوفو بزيلنسكي، بقوله: "لن يتراجع أبداً لأنه يريد ويحلم بأن يكون نسخة عن زيلينسكي".

في المقابل، حمّل رئيس كوسوفو، فيوسا عثماني، صربيا مسؤولية التصعيد، من خلال دعمها لـ "الهياكل غير القانونية" في كوسوفو بهدف زعزعة استقرارها، مشيراً إلى "حاجة صربيا إلى التصالح مع ماضيها"، وأن الوضع متوتر، "لكننا بحاجة إلى التأكد من أننا نستعيد سيادة القانون في كوسوفو ونفهم أن التهديد يأتي من إنكار صربيا لوجود كوسوفو كدولة ذات سيادة".

وجيب متروفيتسا، الواقع على الخريطة السياسية لكوسوفو، تم فُصله عن صربيا وضمه إلى كوسوفا عام 1960 لرفع نسبة الصرب في كوسوفا آنذاك، ومنذ إعلان كوسوفو استقلالها عن صربيا عام 2008، لايزال قرابة 100 ألف صربي يعيشون في الجيب، ويستخدمون الوثائق الصربية رافضين الاعتراف بمؤسسات الجمهورية المستقلة من جانب واحد.

ماضٍ دفين

كانت كوسوفو جزءاً من جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية الاشتراكية التي تأسست عام 1945، وتتكون من ست جمهوريات عرقية: البوسنة والهرسك وكرواتيا ومقدونيا والجبل الأسود وصربيا وسلوفينيا، وبعد تفكك يوغوسلافيا مطلع تسعينات القرن الماضي، سعت كوسوفو إلى الحكم الذاتي الخاص بها. مساعٍ واجهتها صربيا بإجراءات صارمة ومجازر دموية ضد الألبان، ما أدى إلى حملة الناتو ضد صربيا عام 1999. انتهت بانسحاب القوات الصربية من كوسوفو.

ويبلغ عدد سكانها مليوني نسمة، يشكّل الألبان 95 بالمئة منهم والخمسة من المئة الباقية صرب، لكن رغم كونهم أغلبية في كوسوفو، ترى صربيا كوسوفو مكاناً مقدساً لها، لوجود مقر الكنيسة الأرثوذكسية الصربية، ولكونها شهدت معركتين تاريخيتين (كوسوفو الأولى وكوسوفو الثانية) بين الجيوش العثمانية وجيوش الصرب وحلفائهم، هُزم فيهما الصرب وقُتل أميرهم المعروف بالإمبراطور لازار هيربليانوفيتش.

وفي يونيو/حزيران 1989، زار الزعيم الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش كوسوفو، ملقياً خطبة نارية، ذكّر فيها بمعركة كوسوفو، طالباً من الصرب عدم نسيان ما حدث قبل ستة قرون.
ورغم اعتراف قرابة 100 دولة باستقلال كوسوفو لم تكن كل من صربيا وروسيا منهم، وبعد وساطات أمريكية وأوروبية، وضغوط اقتصادية، وافقت صربيا على توقيع "اتفاق بروكسل" لتطبيع العلاقات بين صربيا وكوسوفو دون اعتراف الأولى باستقلال الأخيرة.

وعليه، يمكن النظر للاشتباكات الأخيرة شمال كوسوفو كاستمرارية لحالة العداء الاثني والتنافس الدولي في منطقة البلقان، التي اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى من ساحاتها، باعتبارها ساحة تنافس القوى العظمى حينها، نظراً لموقعها الإستراتيجي، ونتيجة لما تمنحه الكلمة العليا فيها من نفوذ على السلطنة العثمانية، وبالتالي تحجيم بقية القوى.

سماء البلقان تغطيها الغيوم العرقية بالكامل، وحوادث الأيام الأخيرة بين صربيا وكوسوفو جزء منها، حسب مدير برنامج الأمن والدفاع في مركز صنع السياسات، اللواء العراقي ماجد القيسي، الذي يرى أنه "لتفكيك أي حدث يجب النظر إلى مجموعة من الأبعاد، ومنها البعدان التاريخي والجغرافي، وإن كان البعد التاريخي معلوماً، فإن البعد الجغرافي للاحتجاجات والاشتباكات في شمال كوسوفو، الذي تقطنه أغلبية صربية، لا يمكن بتره عن الحرب الروسية-الأوكرانية، المشتعلة منذ أكثر من عام بين روسيا ودول الناتو لأهداف تتجاوز أوكرانيا وتتعلق بتغيير قواعد النظام الدولي أحادي القطبية وما يتبعها من هيمنة اقتصادية أمريكية وقيم غربية".

ويذكر القيسي في حديثه لموقع أورينت، بأول خطاب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، حيث أورد فيه وجود جماعات تأتمر بأوامر موسكو داخل الفضاء الأوروبي، مشيراً لإمكانية استخدامهم في زعزعة الاستقرار داخل أوروبا، أو لرفع مستوى الاحتكاك مع قوات الناتو، وهو ما ينطبق على الحدث البلقاني، حيث تدور صربيا عرقياً ومذهبياً وسياسياً في الفلك الروسي، ونتيجة لهذه العلاقة المميزة، لم تعترف موسكو حتى الآن باستقلال كوسوفو، كما رفضت قبلها تدخل الناتو في الصراع وتوترات علاقاتها مع واشنطن على إثره، لكنها لم تكن بمستوى القوة الذي يسمح لها بوقفها أو مواجهتها.

لذا ووفقاً للقيسي ينبغي النظر للخلافات الأخيرة بين صربيا وكوسوفو كحالة لامتداد الذراع الطويلة لحرب الظل الروسية الغربية، كما نشاهد جماعات روسية بولاء غربي ضمن أراضي روسيا، فهناك جماعات أوروبية تدين بالولاء لروسيا وستكون جاهزة لفتح بؤرة صراع في مناطقها في مرحلة ما من مراحل تشعيب الصراع الروسي الغربي.

لحظة "عفوية" ولّدت أزمة مزمنة

مثّلت دول البلقان منذ مطلع القرن التاسع عشر منبع التطرف الإثني والعرقي، نتيجة تخمتها بالمجموعات الإثنية والدينية والمذهبية المختلفة، دعمت كل مجموعة منها قوة من القوى العالمية الموجودة حينها، في مسعى من القوى الأخيرة لتحقيق مكاسبها وخلق تحديات أمام القوى الأخرى، ما ساهم بتكريس وتأطير بذور التطرف الموجودة بصورة أكثر حدة مما هي عليه.

خلال دخول القوات الأممية "KOFR" إلى كوسوفو بموجب القرار الأممي 1244 لعام 1999، أقامت القوات الفرنسية العاملة ضمنها حاجزاً على جسر إيبار وسط مدينة متروفيتسا لحماية السكان الصرب شمال النهر حيث يشكلون غالبية هناك. هذا التصرف الذي جاء وليد اللحظة شكل جرحاً لم يندمل، فقد حدث تنقل سكاني انقسمت بموجبه مدينة متروفيتسا إلى قسمين، شمالية بغالبية صربية وجنوبية بغالبية ألبانية، وبسبب الجوار الجغرافي والتركيب الديموغرافي والبعد السياسي بقيت متروفيتسا الشمالية جزءاً من صربيا منذ ذلك الوقت، رغم بقائها ظاهرياً على الخريطة السياسية لكوسوفو إذ يرفرف العَلم الصربي في كل مكان، وعندما تتحدث إلى الناس في ليبوسافيتش يقولون إن هذا جزء من صربيا، وما دامت جميع الأطراف المعنية تفشل في معالجة رفض الصرب الاعتراف بكوسوفو كدولة فإن أي حل لن يضمن تراجع التوترات.

ووفقاً لرويترز، اتفق الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش والرئيس الكوسوفي فيوسا عثماني، خلال لقائهما بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتس على هامش قمة المجموعة السياسية الأوروبية في مولدوفا نهاية الشهر الفائت، على النظر في خطة قدمتها فرنسا وألمانيا لتهدئة التوترات في كوسوفو، تنطوي على التزام كوسوفو بإجراء انتخابات جديدة في المناطق المتنازع عليها، والتزام صربيا بتشجيع المشاركة في الانتخابات.

واستكمالاً للبعد الجغرافي يضيف القيسي، إذا أقدمت دول الناتو على تزويد أوكرانيا بطائرات أف16 في المرحلة القادمة، فسنشهد مناطق صراع أخرى خارج الجغرافيا الأوكرانية، ومنها في البلقان بين كوسوفو وصربيا امتداداً لصراع الناتو مع الغرب في أوكرانيا، مرجحاً أن يسبقها إشعال ساحة دول البلطيق، ليتوانيا واستونيا ولاتفيا وبولندا، والتي يوجد فيها أسطول البلطيق الروسي.

صراع يمتد إلى نهاية الأرض

تجري الجهود الأوروبية لتطبيع العلاقات بين صربيا وكوسوفو مجرى الماء في الرمال، فما تسميه بروكسل"السلام التطبيعي"، والذي تقوم على جلب صربيا وكوسوفو إليه، من خلال تقديم محفزات اقتصادية وغير اقتصادية، تواجهها تحديات عدة، في ظل أزمة عميقة ومتشعبة في السياسة والإيدولوجيا والتاريخ والاقتصاد، قد تتطلب تبادل أراضٍ وتبادل سكان لحلها، وتتطلب أيضاً مشاركة ومباركة روسية في أي حل دائم لها، وهو ما يغيب عن الأفق، في ظل احتدام الصراع الغربي مع روسيا.

فالحرب الروسية الأوكرانية بنظر القيسي صفحة أولى من حرب طويلة قد تشمل صفحاتها التالية دول البلطيق ودول البلقان امتداداً للصراع على نهاية الأرض في القطب الشمالي، والذي يعتبر أقصر منطقة تنقل إستراتيجي بين القارات، إضافة لما يحتويه من موارد طبيعية كبيرة. فالمعركة المستقبلية هناك هي السبب الحقيقي لطلب فنلندا والسويد الانضمام إلى حلف الناتو كونهما الأقرب للقطب، الذي تحكمه اتفاقية الدول الثماني، لكن القواعد العسكرية الروسية موجودة بكثرة فيه، ولا سيما في منطقة "ساليبار".

وبرأيه الحرب الروسية-الأوكرانية حرب مختلطة مختلفة عن كل الحروب، كونها حرباً بالوكالة رغم وجود عسكري غربي غير معلن، ويتولى تشغيل أنظمة الدفاع الجوي وإدارة الحرب الإلكترونية وسواهما، إضافة لأنها لا تخضع لقواعد الحرب التقليدية بين جيشين، بالنظر لوجود جماعات شبه عسكرية، كفيلق آزوف والفيلق الروسي والقوميين الأوكران والجماعات الشيشانية وفاغنر والانفصاليين الأوكران. وفي ظل انعدام مبادرة لوقف الحرب في أوكرانيا فإن شرارتها قد تنتقل إلى أماكن أخرى ومنها الساحة البلقانية.

وكان رئيس الدبلوماسية الأوروبية، جوزيب بوريل، قد أعلن نهاية شباط/فبراير الماضي التوصل لـ "اتفاق على طريق تطبيع العلاقات بين كوسوفو وصربيا" بين فوتشيتش وكورتي، وفقاً لصحيفة إفستيا الروسية. لكن صربيا لم توقع وثائق هذا الاتفاق، بل إن فوتشيتش قال: "لن أوقع على استقلال كوسوفو..لا أريد السفر في جميع أنحاء صربيا واختلاق الأعذار لتبرير ذلك، لأن كل شخص صادق يعرف ويؤمن أنه لا يمكن أن يكون هناك استسلام، ولن نعترف باستقلال كوسوفو، لا الفعلي ولا القانوني، لكن هل نريد سلاماً مع الألبان وعلاقات لائقة وأفضل ؟.. نعم".

استيعاب التصعيد الأخير بين صربيا وكوسوفو لا يعني بلوغ الطرفين القناعة بضرورة الحل السياسي للأزمة العميقة والمتجددة بينهما، فتواتر التصعيد وتقارب مُدده مؤشر على ابتعاد الطرفين عن الرغبة الجدية في معالجة الأزمة بينهما بالطرق الدبلوماسية، ويزدادان بعداً نتيجة تعالي منسوب التعصب العرقي قبل الديني، كسلاح تمايز وتحشيد، أضف إلى ذلك ازدياد عمق الهوة بين روسيا وأوروبا، واللتين لا بد من توافقهما لإيجاد حل دائم للخلافات المتجددة بين الصرب والكوسوفيين الألبان.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات