الحرب السورية في قصة صديقين من طائفتين

الحرب السورية في قصة صديقين من طائفتين

طوال سنوات وجودي خارج سورية بقيت لدي رغبة لقراءة ما يكتبه روائيوها عن الأحداث الكبرى التي عاشتها سوريا في العقد المنصرم، وكانت هذه الرغبة تتعمق عاما بعد آخر، دون أن تتحقق، إلى أن يئست تقريباً من إمكانية الحصول على أعمال صادرة داخل سورية تتحدث عن الحرب من وجهة نظر محايدة، فليس من المتوقع أن يصدر كتاب عن دار نشر داخل سوريا ولو كان كتاباً أدبياً، ليتحدث من وجهة نظر الثورة والمعارضة، عما جرى في سوريا؛ إلى أن بادر صديق سوري بإعارتي رواية كتبها قبل عشر سنوات كاتب غير معروف على نطاق واسع، اسمه حسن صقر، الرواية بعنوان شارع الخيزران وهي صادرة عن دار الحصاد بدمشق سنة 2014 

لن أتناول الرواية أدباً، بل سأعمد إلى انتقاء بعض مقتطفات منها ذات طابع سياسي مباشر، وهو ما يهمنا هنا، لنرى كيف ينظر كاتب سوري محايد إالى حد بعيد، أي غير موالٍ للنظام، إلى هذا الذي حدث في سوريا -الثورة والحرب-خلال السنوات الأولى  تحديداً مابين عامي 2011 و2014.

يتحدث الكاتب عن مدينته اللاذقية خلال الأحداث فيقول :

" غير أن اللاذقية المندمجة مع طفولتنا صبانا وشبابنا تبدو الآن مدينة معتمة وخائفة متوجسة من أي حركة تحصل فيها. فما إن تسمع رشقة بندقية حتى يهرع الناس إلى منازلهم ويحكمون إغلاق الأبواب . هنا تبدأ الهواتف بالرنين وكل يتصل باقاربه ومحبيه : ما الذي حصل وكم واحداً سقط؟ وماذا بعد ذلك؟ وبلمح البصر تصبح هذه اللاذقية التي كنت تناجيها كقصيدة شعرية أو تداعبها كعشيقة تغسل أقدامها في البحر وتتكىء بظهرها على الجبال تمسد جدائلها أشجار البرتقال مدينة عارية جرداء تقدم نفسها لكل عابر سبيل مقابل لحظة من الامان". ص56.

سأستعرض هنا قصة أساسية داخل العمل هي قصة الكاتب عادل وصديقه أحمد وهما من الطائفتين العلوية والسنّية.

أحمد بعد الثورة وتوحّش النظام يقرر الانضمام إلى تنظيم مسلح ومقاتلة النظام لكنه قبل ذلك يأخذ موقف مضاداً من صديقه عادل ابن المذهب الآخر - العلوي- :

يقول صديق مشترك لعادل وأحمد، متحدثاً عن أحمد:

"رأيته منذ خمسة أشهر. أنت تعلم أن أباه مهندس كهربائي وشيخ جامع ولديه ورشة ومخزن أدوات كهرباىية في حي العوينة، آخر مرة زرته في الدكان كان عصبياً جداً يزمجر ويشتم حتى إنه كان يهدد ويقول صراحة إنه لا يريد أن يتكلم معنا. وكنت أقول له يا أحمد كبّر عقلك نحن أصدقاء العمر والمسألة لا تتعلق بأن هذه الفئة هنا أو تلك الطائفة هناك. هذه سياسة دولية كبرى وكل الطوائف وكل المذاهب مجرد وقود للحرب التي أشعلوها. لذلك لم تكن مفاجأة بالنسبة لي عندما وصلني نبأ مقتله في أحراج قرية سلمى بعد أن انضم إلى المسلحين كي يشارك في الحرب ضد القوات النظامية" ص 55.

غير أن أحمد يقترح على صديقه عادل ابن الطائفة الأخرى الاشتراك بسفح دمهما طوعاً لإثبات أن السوريين شعب واحد، يقول أحمد:

" رسمت خطة بعد تفكير طويل، وهي أن نخوض معاً أنا وأنت هذه الحرب ونُقتل معاً وبذلك نحقق وحدة الشعب السوري ونكون قدوة للآخرين.

قلت محاولاً أن أهدئ من روعه:

-لكن يا أحمد الحرب سجال، بمعنى أنه عليك تقتل وتُقتل. أن تُقتَل مسألة سهلة، أي واحد يقع في مرمى النيران سيُقتل بالضرورة، ولكن هل تستطيع أن تقتل أحداً؟ أحداً لا تعرفه ويعرفك وهو من أبناء وطنك.

- من حيث المبدأ كلا، لكن الحرب لها منطقها الخاص ولا يستطيع أحد أن يحكم على الأمور مسبقاً " ص 84و ص85..

" قلت له ونحن نتناول الفاكهة:

إذا كانت القضية تتعلق بالانتحار الجماعي فأنا جاهز في حال كان انتحارنا معاً يعمل على رأب الصدع الذي تتحدث عنه. يمكن أن نذهب معاً إلى ساحة الشيخضاهر نلقي بياناً مؤلفاً من أربع كلمات "نحن ضد هذه الحرب" ثم نصب البنزين على جسدينا ونشعل النار.

قال مبدياً اعتراضه:

الانتحار يحتاج إلى لحظة غليان أفتقدها أنا كما تفتقدها أنت. ثم إنه فعل مجاني لا طائل منه. فضلاً عن أنه لا أحد ينتحر وهو يناقش المسألة بدم بارد. لذلك لا بد من خوض الحرب التي لا تحتاج إلى أي تهيئة. فقط سلم نفسك لها وهي تتكفل بالباقي" ص85وص86

" بالتأكيد لم يكن أي منا، لا أحمد عساف ولا أنا يعنينا بأي حال من الأحوال فيما إذا كان أحد ما قد فاز في الخلافة، وحجبت عن الآخر.

ومع ذلك فهو يريد مني لأسباب براغماتية محضة أن أخوض معه الحرب، ويداً بيد تحت رايتين مختلفتين، لعل الرايتين اللتين عجزتا عن الالتقاء طوال أكثر مما يزيد عن ألف واربعمئة عام تصلان إلى الوحدة الآن على دمائنا المسفوحة أنا وأحمد عساف. كان أحمد حالما من طراز رفيع يجتاز الهوات السحيقة بقفزة واحدة وكنت واقعياً قادراً على معالجة الأمور برويّة وأعرف أين توجد الألغام وأين تنتظرنا العبوات الناسفة"  ص 86

لكن أحمد يغادر إلى ريف اللاذقية ملتحقاً بالثوار للقتال ضد قوات الجيش النظامي، وبعد بضعة أشهر يُقتل في إحدى المعارك هناك.

يقول عادل صديق أحمد:

"في اللحظة التي وصلني فبها نبأ مقتله انطلق صوته في وجداني يقول: أنت الذي قتلتني.

وعندما تأكدت من أنه لم يتوفر له قبر كي يوارى فيه صار كياني كله مثوى له، فصرت مجرد قبر متحرك. " ص 87

يقول عادل :

" غداً حينما يعم الظلام سأذهب بالتأكيد إلى بيت أحمد في حي التضامن لتقديم واجب العزاء. مع الأسف لقد صنعت إيديولوجيا الحرب لهذا الحي وقعاً مخيفاً لدى كثيرين،  وهذا وغيره جرى العمل عليه منذ زمن ليس بالقصير، لقسمة المدينة إلى نصفين، كل نصف يناصب النصف الآخر العداء. أنا في حيرة من أمري إذ لست أدري إن كان وجودي سيخفف شيئاً من آلام هذه الأسرة المنكوبة وهم يعلمون علم اليقين كم كنت قريباً من أحمد ومحباً له. لماذا لا يكون الأمر على النقيض من ذلك، ويزيد حضوري من أحزانهم؟ فأنا أعيش متمتعاً بالصحة بين أهلي وأصدقائي، بينما قضى أحمد إلى الأبد. دون أن يعرف عنه أحد شيئاً سوى أنه قضى ." ص57

ويتحدث عن منع الأمن للتعزية بالمقاتلين المعارضين الذين سقطوا في الجبهات. يقول:

" ليس من المستبعد أن أشاهد رقعة مكتوبة بخط اليد وملصقة على الباب تقول "نعتذر عن استقبال المعزّين" أو لا مانع من أن يقع نظرك على رجل أنيق المظهر خشن التقاطيع يحوم حول باب العمارة، ما إن تقترب منه حتى يقول لك بجلافة: " إذا أردت أن تقوم بواجب العزاء فعليك أن تذهب إلى مكان آخر" ثم يدير ظهره . وإذا طلبت منه أن يضيف كلمة واحدة سيقول " أنا أتكلم بالعربي" ويغلق الخط." ص59

يحاول الكاتب أن يحلل مسألة الطائفية ويبين علاقتها بالنظام السياسي، ففي نقاش دار بين مثقف وأستاذ للفلسفة وبين أحد أصدقائه وهو طالب سابق، عن الطائفية، يقول الأستاذ:

"يا أخي الطائفية غير متأصلة في النفوس وهي تعيش في السياسة وتموت في السياسة فلو كان لدينا عقلانية في السياسة ووصل كل إنسان إلى حقه لانكسرت شوكة الطائفية وأهم من هذه الشوكة المتعيشين عليها ....

-عفوا  يا أستاذ عبد الجليل الحزب يحكم منذ أكثر من نصف قرن فلماذا لم يقض على هذه الآفة وهو يدّعي بأنه علماني ؟

- يا أخي هذا وهم، حزب البعث لم يحكم كحزب وإنما حكمت مجموعة باسمه وأنتم تعرفونها وهي حولته إلى ستار تبرر فيه أفعالها " ص204

ثم يبين كيف أن النظام الذي ادعى العلمانية لم يكن سوى نظام قمعي تلاعب بالمسألة الدينية:

" قال الأب: قد يكون هذا صحيحاً من الناحية النظرية، غير أن العلمانيين في بلادنا برهنوا على أنهم قمعيون وسطحيون واكتفوا بتهشيم الرموز الدينية وهذا ما ساعد على ظهور أشكال التطرف الديني" ص61

ليست هذه سوى نبذة عن قسم واحد من " شارع الخيزران" أقرب ما يكون ذا طابع سياسي مباشر يعالج مسائل تعنينا كمعارضين وثوار، ويتبقى قسم آخر أو أكثر من قسم في الرواية يعالج مسائل وجودية وفلسفية، وكذلك يعالج قضايا اجتماعية تتعلق بصراع الفلاحين والإقطاعيين ويكشف عن حالة البؤس في المدينة وحالات الاكتئاب العميقة التي يعاني منها ضحايا الحرب، ولا سيما أولئك الذين خسروا أحبتهم ومنازلهم جراء قصف النظام المدمر للمدن لا سيما مدينة حمص .

ربما مستقبلاً نعود إلى هذا العمل المهم من أدب الحرب السورية، لكونه عملاً صادماً في جرأته وكاشفاً عما بقي يعتبر "تابو" ومحرم تناوله  -أي السياسي والمذهبي- طوال عقود، عن الإصدارات الأدبية المنشورة داخل سوريا. 

التعليقات (2)

    زهير

    ·منذ 10 أشهر أسبوعين
    كتير عجبني المقال

    حمصي من الخالدية

    ·منذ 10 أشهر أسبوعين
    مقال رائع و نادراً ما تطرق أحد إلى هذه النقطة المهمة . فهما تكن الظروف لا تخلو اي عائلة او طائفة من أشخاص رائعين و نافعين و لا تخلو أيضاً من الانتهازيبن او الطاىئفيين و انا كشخص معارض و ابن مدينة حمص لدي بحكم الجيرة و العمل و الدراسة الكثير من الأصدقاء من الطائفة العلوية أحب أن أسمع رأيهم ..... و تمنيت كثيراً لو انهم استنكروا أو أدانوا طائفية و إجرام النظام في مجزرة التضامن مثلاً .... فهي طائفية و اجرامية بشكل صارخ و لا يحتمل التشكيك او الإنكار لأنها تن تصويرها و المجرمين ظهروا و بالاسم و الجهة التي يعملوا لديها !! و سأستعير من المقال هذه الجملة التي أعجبتني ...... يا أخي الطائفية غير متأصلة في النفوس وهي تعيش في السياسة وتموت في السياسة فلو كان لدينا عقلانية في السياسة ووصل كل إنسان إلى حقه لانكسرت شوكة الطائفية وأهم من هذه الشوكة المتعيشين عليها .... ( و حتى يصير للمقال طعم و نكهة ) تحياتي لكل الشرفاء في سورية و العلويين خاصة و لعنة الله على آل الأسد و من والاهم و نظامهم الذي يخدم فقط أعداء الأمة العربية و الإسلامية و هو عدو السوريين الحقيقي و الأول و ليس إسرائيل .
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات