"عندما اشتهت السفن".. المكوّن المسيحي في مواجهة آلة القتل الأسدية

"عندما اشتهت السفن".. المكوّن المسيحي في مواجهة آلة القتل الأسدية

سالكاً الدرب الوعرة التي قطعها أقرانه وما زالوا منذ اثنتي عشرة سنة، منتقداً الواقع الجديد، بكل ما فيه من انسلاخ عن القيم، متخذاً من الحكاية الموازية لمفردة "سوري"، وهي حكاية الموت قبل وبعد النجاة، يطل الكاتب السوري "نادر عازر"، من خلال روايته "عندما اشتهت السفن" والتي صدرت مؤخراً عن دار موزاييك للدراسات والنشر في تركيا، من مساحة متفردة، مساحة قلما التقطتها عدسة الرواية السورية أو ربما لم تتمركز في الزاوية ذاتها التي أطلق " عازر" منها سرديته، حيث يبدأ الحكاية من مدينة الحسكة، ومن داخل المكوّن المسيحي مع بطلة سرديته "سما".

الكاتب شرع في روايته منذ السنة الرابعة من بدء اندلاع الثورة، ووصول آلة الموت إلى تلك البيئة. ومن خلال ذلك استطاع "عازر" إضفاء عنصر التشويق إلى بداية روايته، ثم واصل بخطين متوازيين، فتارةً تهدأ حدة الأحداث، وتارة تعلو لتبلغ ذروة يظنها القارئ نهاية للسردية، إلا أنها تتكشف عن حدث آخر أكثر تشويقاً، وهذه المطبات قيّدت القارئ بخيط مهم من خيوط حبكة الرواية، وجلبته إلى حيث يريد الراوي..

وفي حين لم يغص الكاتب عميقاً في بيئة البطلة، إلا أنه أعطانا لمحة بسيطة عن تلك البيئة، حيث جعلها حاملة لبداية الحدث، ثم يعود بنا إليها مرات عدة بخاصية الفلاش باك، ليدعم الحاضر، وليكشف الإبهام الذي يعتري بعض الأحداث، فسما التي في الرواية، هي سما السورية التي لا تطغى عليها أيدلوجيا معينة، ومع ذلك، تتحدث بلسان كاتبها، وتعبّر عن آرائه ومواقفه. تلك المواقف التي اتسمت في البداية برمادية ضحلة، ثم ما لبثت أن تكشفت عن إشارة للقاتل الموجود في كل الجهات، والحامل لمختلف الأيدولوجيات، فبرأي الكاتب، جميع الأطراف نكّلت بالشعب السوري.

وحشية لا مثيل لها

وقد يظن قارئ هذه المقالة أنه أمام عمل يحمّل الكل المسؤولية ويوازي بينهم في الإيغال بالدم السوري، لكن مع الفصل الأول من الرواية يتضح لنا تحميل الكاتب المسؤولية الأكبر على نظام أسد ، منذ تنكيله بأصحاب الرأي المعارض والمختلف، إلى قصفه المدن السورية بالبراميل المتفجرة بوحشية لا مثيل لها... إلى الخطف والفوضى التي خلقتها الأطراف الأخرى... وهذا ما دفع "سما" إلى سلوك درب اللجوء، حين اختارت ككثير من السوريين، أوروبا وجهةً.

وعلى عكس معظمنا، لم تترك "سما" خلفها عائلة وأصحاباً وأحبّة، بل تركت إرثاً من الذكريات فقط، إرثاً كان حاضراً في رحلتها ومن ثم استقرارها، فمعظم من عرفتهم "سما" غادروا النص موتاً أو سفراً، ولم يبقَ إلا هي وميراثُ جدها من الكتب.

لم تعانِ "سما" في رحلتها إلى أوروبا الكثير، بل كانت الواقعية طاغية، تمهّد للحدث الأكبر، فلم يتوغل الكاتب في مظلومية وقهر السوري في طريق لجوئه، حيث اختار لسما طريقاً مختصرة، فأوصلها إلى حيث تريد بأقل الخسائر... 

 وفي جانب آخر، يظهر من خلال التسلسل الذي - كما ذكرنا سابقاً - أخذ شكلاً متذبذباً، انحياز الكاتب إلى جمالية السرد على حساب الفكرة، فمن حيث الموضوع الرئيس، فهو سائد، وقد عمل عليه كثير من الكتّاب، إلا أن الانطلاق من تلك البيئة، وتفرد السرد والالتقاطات الصغيرة للأحداث الثانوية، جعل الرواية تأخذ طابعاً مختلفاً ومتميزاً. حيث استخدم فيها "عازر" لغة ذاتية سلسة، على الرغم من تحدثه بلسان الراوي العليم، وعلى الرغم من انخراطه الجاد في توصيف تاريخ المرحلة، ونتائجها على المستقبل القريب.

فعندما وصلت "سما" إلى حيث تريد، بدأت تظهر نتائج تلك المرحلة، فحدث الكامب السويدي، وبداية سكنها في بيت أبيها وزوجته، والطريقة التي عوملت فيها، ثم انطلاقها لتكوين مستقبل في بيئة غريبة، وما رافق كل ذلك من حالة توتر وضعف.. تجلّى في رسم المسار الجماعي للاجئين، لكن مع استقرارها في أوروبا تستعيض بطلة الرواية عن شخصيتها القديمة بشخصية أخرى، وكأنها أرادت إيصال قدرة السوري على التأقلم والتحرك في أصعب المساحات الحياتية، فما لبثت أن باشرت دراستها ومن ثم عملها وانخراطها في المجتمع الجديد ومنظماته المدنية. وربما أراد الكاتب من خلال ذلك اختصار أو حرق مراحل مطروقة، كما اتسمت شخصية "سما" الجديدة بمرونة كبيرة، وعقدها صداقات كثيرة، وهذا لم يكن موجوداً في بيئتها الأم. 

وإلى جانب ذلك، تدخل "سما" في علاقة غير واضحة المعالم ضمن متن السردية، بل تلازمها منذ بداية استقرارها في السويد، حتى نهاية السردية، لتتوضح حينها قيمة العلاقة وجماليتها، من خلال المشاعر التي حملها المحب، والذي تَبيَّن أيضاً أن السرد بأكمله جاء على لسانه.

قصة كل سوري

بعد مدة زمنية وبحبكة محكمة، يمهّد فيها الكاتب لنهاية روايته بشكل درامي قريب جداً من الحقيقة، لدرجة أن القارئ سيجزم بحدوث هذه القصة، فهي قصة كل سوري محكوم بالموت حتى وإن نجا، ولا بد هنا من الابتعاد عن حرق أحداث الرواية بإظهار خيوطها، بل نستطيع القول إن "عازر" كان ميالاً إلى تصعيد الموت الذي بات عادياً للسوري إلى ذروته، وفرض علينا الاشتراك في مصير "سما"، وفي المشاعر القاسية التي نتجت عن ذلك المصير، ومن خلال تلك النهاية، أضاف "عازر" ميتة جديدة لمجموع ميتات المواطن السوري.

وأخيراً، تحتمل رواية "عندما اشتهت السفن" والتي جاءت في 314 صفحة من القطع المتوسط، أكثر من قراءة، وتؤول بوجوه متعددة، فهي إلى جانب أنها؛ استسلام للعنة التي رافقتنا وما زالت، أخذت وجهاً درامياً، فيه من الذكريات، الحامل المعرفي للكاتب، آراء ومواقف، وحب.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات