الآلية الدولية الخاصة بالمختفين قسراً: المخاض العسير واحتمالات الإنشاء

الآلية الدولية الخاصة بالمختفين قسراً: المخاض العسير واحتمالات الإنشاء

لطالما اعتمدت الأنظمة الاستبدادية وخاصةً العسكرية منها، في مناطق عديدة من العالم، كأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وأوروبا الشرقية؛ على سياسية ممنهجة للقمع، كان الإخفاء القسري أحد أشرس أدواتها؛ وعلى هذا النحو، كان نظام الأسد رائداً منذ عقود في ممارسة هذا الانتهاك الخطير لقيم الإنسانية قبل حقوقها حتى، وهو ما شهد توسعاً هائلاً في ممارسة قوات النظام وأجهزته الأمنية من عمليات اعتقال المدنيين وتغييبهم قسرياً بعد اندلاع الثورة، كوسيلة عقابية لقهر الشعب السوري وكسر إرادته التي طالبت بالحرية والكرامة.

ولا يزال ملف المعتقلين والمختفين قسراً في سوريا يشكل مشكلة عصيّة عن الحل؛ وذلك بسبب مراهنة النظام وحلفائه على طي الملف وجعله ورقة تفاوضية في العملية السياسية، كما فعل مع ملف المساعدات، وبسبب عدم إيلائه الاهتمام الكافي فعلياً من قبل المجتمع الدولي، رغم الجهود المضنية للسوريين، منظمات وأفراد ونشطاء، إضافةً إلى مئات التقارير الحقوقية بما فيها الدولية.

لتبرز خلال الأيام الماضية دعوات أممية ودولية لإيجاد حلول حول ملف المعتقلين والمفقودين "المختفين قسراً" في سوريا؛ ومن أبرز هذه الدعوات على المستوى الأممي، كان ما طرحه المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في اجتماعها "غير الرسمي"، في الدورة السابعة والسبعين؛ والتي تضمنت مجموعة من المعايير والمبادئ العملية المقترحة.

ومؤخراً، جاءت دعوات الأمين العام للأمم المتحدة "غوتيريش"، للجمعية العامة لإنشاء هيئة جديدة لكشف مصير المفقودين في سوريا.

وفي ذات السياق، كانت أبرز مواقف الدول وأقواها، على لسان مندوبة الولايات المتحدة الأمريكية "ليندا غرينفيلد"، والتي تركزت على تأييد إنشاء كيان مستقل يعمل مع جميع الجهات الفاعلة في الأمم المتحدة والدول الأعضاء والمنظمات الدولية، مع الإبقاء على طابعه الإنساني البحت وتركيزه على الناجين وعائلاتهم.

تطرح هذه الدعوات مجموعة من التساؤلات، لعلّ أهمها يرتبط بالسياق العام لها، وكيفية الوصول لهذه المرحلة؟ من جهة، والتحديات المختلفة التي تواجه عمل ونجاح اللجنة المحتمل تشكيلها؟ من جهة أخرى؛ حيث تسهم الإجابة عن هذه النقاط في التمهيد لفهم أفضل وأكثر عمقاً لدى السوريين عموماً وخاصة عائلات الضحايا والناجين، بوصفهم شركاء أساسيين ولا يمكن إغفال رأيهم، وطالباتهم في جميع مراحل التعاطي مع الملف الحقوقي الأكثر أولوية وحساسية، بدءاً من قواعد تشكيل هكذا لجنة، وليس انتهاءً بأعمالها الفعلية وتقاريرها النهائية.

وبالنظر إلى السياق الزمني للمناصرة الحقوقية لملف المختفين قسراً في الحالة السورية، يمكن تقسيم الأطوار الرئيسية إلى ثلاثة مراحل: بدأت الأولى مبكراً منذ عام 2013 على أقل تقدير، وذلك عبر العديد من التوصيات في تقارير حقوقية عدّة (لمنظمات المجتمع المدني السوري الوليدة، الأمم المتحدة، لجنة التحقيق الدولية، الفرق العامل المعني، الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، اللجنة الدولية للصليب الأحمر.. وغيرها)، تركزت غالب التوصيات، على إنشاء آلية أو مكتب (غالباً وطنيّ الطابع والتشكيل) للكشف عن مصير المختفين قسراً في سوريا.

وبدأت المرحلة الثانية التي تبلورت فيها الرؤية بشكل أكبر وأوضح منذ عام 2016، حيث أوصت لجنة التحقيق الدولية، أن يدعم المجتمع الدولي إنشاء آلية لمساعدة السوريين في معالجة التحدي الذي يمثله وجود عشرات الآلاف من الأشخاص المفقودين والمختفين قسرياً، ليتبعها خلال السنوات اللاحقة عمليات حشد ودعوات من الأمين العام للأمم المتحدة والمفوضة السامية لحقوق واللجنة الدولية للصليب الأحمر والبرلمان الأوروبي وبعض الدول الأعضاء، والكثير من المنظمات الدولية والمحلية لحقوق الإنسان والمدافعين عن حقوق الإنسان، بصورة منفصلة أو مجتمعة.

لتبدأ المرحلة الثالثة والأكثر تأثيراً وفاعلية مع بداية عام 2021، إذ تم تكثيف نشاط عدد من منظمات الضحايا السوريين، وتم إطلاق دعوات منها "ميثاق الحقيقة"، وتقارير عديدة توصي بإنشاء آلية لبحث مصير المختفين قسراً في سوريا، ليأتي التطور الأهم في كانون الأول عام 2021، إذ اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار 76/228، والذي  طلبت فيه إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أن يقوم بدراسة عن كيفية تعزيز الجهود لتوضيح مصير وأماكن وجود المفقودين في سوريا، استناداً إلى توصيات لجنة التحقيق الدولية المستقلة  والتي عرضت في 17 حزيران 2022 توصياتها عبر تقرير حمل عنوان "المفقودون والمختفون في سوريا: هل من سبيل للتحرك قُدماً؟".

يُظهر هذا المخاض الطويل جانباً إيجابياً حول حجم الجهود المبذولة وعدم استسلامها وكثافتها، وهي بلا شك، حامل رئيسي لمناصرة القضية ومواجهة محاولات طيها ومسحها واغفالها من قبل نظام الأسد وحلفائه؛ لكنها في مقابل ذلك، تُظهر بوضوح مدى التخاذل الدولي بحق الدماء والمعاناة تحت مبررات وذرائع إجرائية عديدة "كالفيتو الروسي"، والسماح باستمرار قتل المعتقلين جوعاً وتعذيباً ومرضاً.. ومحاولة إخفاء آثارهم للأبد بأشنع الوسائل كالمحارق وحفر الأسيد.

ويطرح ذلك التراخي السابق والمماطلة الدولية، تساؤلات أخرى جدية، عن إمكانية المضي بخطوة حقيقية لإنشاء الآلية الدولية الخاصة بالمختفين قسراً في سوريا، بغض النظر عن التفاصيل الكثيرة المحورية التي ترتبط بتنظيمها القانوني كمبادئها التوجيهية واختصاصاتها وصلاحياتها وتمويلها.. إلخ.

ثمة عوامل مختلفة تدعم من احتمال إنشاء اللجنة فعلياً خلال الفترة القريبة القادمة، وأخرى تجعل من الدعوات الأخيرة استمراراً للمسار الطويل المشار إليه آنفاً، ما يجعل من إبصار اللجنة للنور بعيد المنال.

من العوامل الداعمة على الصعيد الدولي يبدو خيار اللجنة كمدخل مناسب من بعض الدول الفاعلة في الملف السوري رداً على الخطوات المرتبطة بالتطبيع الإقليمي مع نظام الأسد ومحاولة إنتاج مقاربة إقليمية تتجاهل الإرادة الدولية وتسعى لتحيدها على ما يبدو بدعم روسي- صيني، وهو ما تجلى بشكل واضح من تصريحات لمسؤولين أمريكيين وأوروبيين، مؤخراً.

ما يدعم ذلك أيضاً التركيز الواضح خلال الفترة السابقة من قبل فواعل مؤثرة كالولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية، على الملف الحقوقي في سوريا، ومنها الخطوة المتخذة في يناير الماضي، من قبل أمريكا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبعض الدول، بإصدار بيان عن ضرورة محاسبة النظام، عقب صدور تقرير لجنة التحقيق الدولية.

كذلك يأتي التصاعد الأخير في الأحداث المرتبطة بالملف الأوكراني، وخاصة التحركات المتصاعدة في الملف الحقوقي، وآخرها إصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي "بوتين"، من قبل المحكمة الجنائية الدولية، وهو ما يعطي مؤشرات للانعكاسات المحتملة على الحالة السورية من ذات المدخل.

أما العوامل السلبية التي تجعل من إمكانية إنشاء اللجنة بعيدة المنال في الوقت الراهن فهي عديدة أيضا؛ منها دلالة السياق السابق، إذ أن هذه الدعوات لإنشاء اللجنة مستمرة منذ سنوات، وليست جديدة، وهو ما استعرضناه آنفاً، ورغم كل تلك الدعوات السابقة، لم تبصر اللجنة النور إلى يومنا هذا، وبالتالي يمكن القول أن الدعوات الحالية كسابقاتها، مدفوعة بعوامل ومؤثرات جديدة على ساحة الصراع الدولية، وقد لا ينتج عنها شيء جديد.

ولعلّ أبرز العوامل التي تعيق إنشاء اللجنة، تكمن في مجموعة العوائق والتحديات "الفنية" التي يمكن أن تواجه ملف المختفين في سوريا، سواء من الناحية القانونية لجهة المتطلبات الإجرائية لتشكيل اللجنة، كعرض الملف للتصويت على الأمم المتحدة والحصول على الأغلبية، وخاصةً مع وجود توجه إقليمي جديد لدعم نظام الأسد، الذي لا يرغب بفتح هذا الملف عن طريق لجنة دولية؛ كذلك استمرار النظر إلى الملف السوري باعتباره ليس بأولوية _على أقل تقدير في الوقت الراهن_ لدى المجتمع الدولي والتركيز سيبقى إقليميا على انتاج اتفاق حول الملف الإيراني بدلاً من الانفجار. 

بكل الأحوال، وفي حال ترجيح احتمالات إنشاء هذه الجنة، توجد مجموعة واسعة من التحديات والعقبات، وحتى المخاطر المحتملة من التعامل مع ملف المعتقلين والمختفين السوريين، وخاصةً مع بقاء نظام الأسد، وهو ما يتطلب لاحقاً مناقشة مجموعة من النقاط الهامة كصلاحيات اللجنة ونشاطاتها وعضويتها.

التعليقات (1)

    خالد

    ·منذ 11 شهر أسبوع
    شكرا
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات