منقلباً على كل إرثه الكمالي وقيم الجمهورية وعلمانيتها التي طالما أشهرت سلاحاً في وجه أصحاب التوجه الديني المحافظ وأسقطت به حكومات، خرج باي كمال، أو السيد كمال كيلجدار أوغلو زعيم حزب الشعب الجمهوري الوريث الشرعي للكمالية المؤسسة للجمهورية قبل نحو أسبوع بفيديو حصد أكثر من مئة مليون مشاهدة، تحت وسم (علوي) تحدّث فيه عن انتمائه للطائفة العلوية وعن مناقبه وطهر مسيرته وكفه، وهي سابقة لم تحصل قطّ في أية حملة انتخابية سابقة منذ تأسيس الدولة التركية الحديثة أن يعلن مرشح عن انتمائه الطائفي ويحاول تسويق نفسه وخطابه تحت هذا الوسم (!).
أثار هذا الفيديو بطبيعة الحال ردود فعل بين المغردين الأتراك على منصة "تويتر" بعضها كان غاضباً لأنه من وجهة نظر صاحب التغريدة يخلق حالة استقطاب طائفي في المجتمع، وبعضها عبّر عن لامبالاته بهذا التوصيف وأن التركيز يجب أن يكون على البرنامج لا الانتماء، لكن الصادم أكثر كان خروج السيد أحمد داوود أوغلو رئيس حزب المستقبل المتحالف مع بقية أحزاب المعارضة ضمن ما يسمى "الطاولة السداسية" بفيديو آخر تحت وسم (سني)، ما يؤشر إلى وجود فجوات على الأقل في خريطة التفاهمات بين هذا الطيف غير المتجانس المشكّل لتحالف الأمة المعارض.
حزب الشعب الجمهوري المتطرف في علمانيته وقوميته والذي كان خلف كل قرارات المنع للحجاب والأذان باللغة العربية ومنع السيدات العاملات من ممارسة عملهن وهنّ يرتدين الحجاب ومنع الطالبات من عبور أبواب المدارس والجامعات قبل خلعهن لحجابهن خلافاً لقيم المجتمع وانتمائه الإسلامي وتطرفاً في فهمه وممارسته للعلمانية.. حزب الشعب الجمهوري الوارث للتركة الكمالية ينحدر اليوم مع السيد كمال إلى مهاوي الخطاب العصبوي الطائفي ويغامر على مذبح السلطة باستنهاض انتماءات ما دون وطنية كنّا نعتقد لزمن طويل أنها طويت مع ولادة الجمهورية.
لقد كان رد الرئيس أردوغان على فيديو باي كمال أكثر نضوجاً ووطنية عندما قال بحزم: (لم يسأل أحد كيلجدار أوغلو عن دينه أو مذهبه كما لم يعترض عليه أحد بناء على دينه أو مذهبه) في إشارة إلى رفض سياسة الاستقطاب المجتمعي على أساس طائفي، وأن الناخب لا يهتم لتلك المسألة بقدر اهتمامه بما يقدمه له المرشح.. بالتأكيد هذا هو الفارق بين رجل الدولة وهواة السياسة.
لكن يبدو أن تلك الوسومات الطائفية لم تكن كافية لحشد مزيد من الأنصار ومحاولة كسب ود الشارع المحافظ لتضيف عليها السيدة (ميرال أكشينار) زعيمة الحزب (الجيّد) بتغريدة على "تويتر" تعلن فيها أنها لو كانت في زمن الصراع بين علياً ومعاوية (رضي الله عنهما) لاختارت أن تكون في جيش علي (!).
إن انحدار الخطاب الانتخابي للحد الذي يصل للنبش في جذور الانتماءات الطائفية وتسعير استقطابات سياسية على هذا الأساس في دولة حديثة اتخذت من العلمانية شرطاً لازماً لدوام كينونتها هو تماماً عملية هدم كامل لإرث ثمانية عقود كاملة أسهم في بنائه وترسيخه هؤلاء أنفسهم وأسلافهم من السياسيين الذين بنوا أحزابهم وحددوا هويتهم كحراس لقيم الجمهورية وعلمانيتها بنسختها الكمالية.. لكن تبدو السياسة بالنسبة لهؤلاء هي استباحة كل شيء وكل محظور في سبيل الوصول لعتبات السلطة (!) .
في مقاله الأخير عن تركيا والحراك الانتخابي فيها في موقع (ميدل إيست أي) عنون الصحفي البريطاني المعروف ديفيد هيرست وتحت عنوان (هل سيتنازل كيلجدار أوغلو عن استقلال أنقرة؟) رصد فيه مواقف قادة المعارضة والرؤى والسياسات التي قد ينتهجونها تجاه العديد من الملفات التي كرّسها أردوغان خلال العقدين الماضيين وصنع لتركيا شخصية أكثر استقلالاً وحضوراً في مواقفها وسياساتها الإقليمية والدولية، ويبدو أن ما حصل عليه ليس فقط استنتاجه أن هؤلاء مهتمون فقط بنيل رضا أمريكا والاتحاد الأوروبي بل هم أيضاً مستعدون للتضحية بكل المكاسب التي جعلت لتركيا وزناً وشخصية مستقلة في الإقليم في سبيل السلطة، وهو ما قاده إلى خلاصة مهمة لخصها في السطور الأخيرة من مقاله وختم بها قائلاً ( في هذه البيئة بالذات، من الضروري أن يكون للشرق الأوسط دول قوية مستعدة لممارسة استقلالها. هذا ما حققه أردوغان رغم كل أخطائه التي لا شك فيها. لأن فقدانها الآن سيكون كارثة ليس فقط على تركيا وحدها بل وعلى المنطقة كلها أيضاً).
التعليقات (5)