قراءة مبسّطة للبيئتين الإقليمية والدولية

قراءة مبسّطة للبيئتين الإقليمية والدولية

يعتقد العديد من المنظرين السياسيين، وخاصة أولئك الذين يتبنون النظرية الواقعية في العلاقات الدولية في تحليلاتهم، أن الصدام المسلح بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين قادم لا بد، وأن مستوى التسخين بين القوتين العظميين وصل حدوداً تنبئ بالخطر، وعلى مستوى منطقة الشرق الأوسط ومن منظور واقعي أيضاً يعتقد الكثيرون أن لحظة الصدام الدامي بين إيران وإسرائيل قد اقتربت، وإذا ما أضفنا إلى ذلك الحرب الأوكرانية الواقعة فعلياً، فالعالم اليوم كأنما هو على كف عفريت كما يقال.

عبر العصور كانت الحرب مرعبة تجلب الموت والدمار والمجاعات والمآسي، ومع الثورة الصناعية ومن ثم التكنلوجية تطورت آلة الحرب لتصبح أكثر فتكاً وتدميراً، ومع الانفتاح التجاري والاقتصادي أصبحت دول العالم أكثر ترابطاً وأكثر اعتمادية على بعضها البعض، وبالتالي أصبح تأثير الحروب أكثر اتساعاً وشمولاً، فقد أثبتت الحرب الأوكرانية بما خلّفته من ركود اقتصادي وتضخّم على مستوى العالم أنه لا أحد بمنأى عن الآثار الكارثية للحرب، لذلك تسعى الدول والمنظمات الدولية لمنع اندلاع الحروب قدر استطاعتها.

والخوف من الحرب قد يضعف التحالفات في أحيان كثيرة، إذ تعتقد بعض الأطراف أن تحالفها مع جهة ما قد يشجّع هذه الجهة على إثارة النزاعات ويجرّها للانخراط في نزاعات لا ناقة لها فيها ولا جمل، ومن هنا جاء تقاعس الناتو عن دعم تركيا أثناء توتر علاقاتها مع روسية بعد إسقاطها للطائرة الروسية، وفي ذات السياق يمكن تفسير تصيرح ماكرون أثناء زيارته الأخيرة للصين: على أوروبا أن تقلّص ارتباطها بالولايات المتحدة وأن تتجنب مواجهة محتملة مع الصين بشأن تايوان.

بعد نشوب الحرب غالباً ما تختلف الحسابات بناء على تقييم المخاطر الأمنية والاقتصادية وآثارها على موازين القوى، إذ تجد أطراف التحالف نفسها مضطرة لإعادة تنشيط تحالفاتها وبثّ الروح فيها من جديد، وهو ما حصل لحلف الناتو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، من هنا يمكن القول: في الوقت الراهن، يؤدي التخوف من الحروب لإضعاف التحالفات الكلاسيكية بين الدول وخلخلتها، بينما تختلف الحسابات بعد نشوب الحرب. 

إن التخوف من الحرب هو السبب الرئيسي وراء توتر العلاقات بين الدول الخليجية والولايات المتحدة الأمريكية، وهو السبب الرئيسي وراء تراجع مستوى الود بين الولايات المتحدة وإسرائيل أيضاً، والتخوف المقصود هنا هو تخوف الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، وبناء عليه وجدت الدول العربية الرئيسة المنخرطة في الصراع مع إيران أن أيّ نزاع مسلح مع إيران في ظل غياب الانخراط الأمريكي الفعلي في هذا النزاع سوف تكون آثاره كارثيةً ومدمّرة على هذه الدول، خاصة وأنها مجاورة لإيران، بخلاف إسرائيل التي تفصلها عن إيران مسافات شاسعة، من هنا ارتأت هذه الدول أن الحكمة تكمن في محاولة النأي بالنفس عن أيّ نزاع مسلّح قد يحصل بين إسرائيل وإيران، فالآثار المباشرة للحرب على الدول المنخرطة بشكل مباشر في النزاع تكون أضعافاً مضاعفة عن الآثار غير المباشرة كالتضخم والركود الاقتصادي وبعض الحوادث الأمنية المتفرقة. 

اتخذت محاولات النأي بالنفس عدة مسارات أهمها المصالحة السعودية – الإيرانية وما تبعها من محاولات لتخفيف التوتر في معظم الساحات التي تشهد تنافسا بين هاتين القوتين الإقليميتين، تلك التطورات كانت بمثابة صفعة قاسية لإسرائيل، فالمسار اتّخذ اتجاهاً معاكساً للمسار السابق، حيث كان تطور العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل يأخذ مساراً متصاعداً في محاولة لعزل إيران وتطويقها، وهذا ما يعني – بكل تأكيد – أن إسرائيل غير راضية إن لم نقل متخوّفة مما يحصل، فهل تحاول حكومة نتنياهو إعادة الأمور إلى مسارها الأول عن طريق شنّ حرب مفتوحة على إيران وأتباعها؟

هناك تخوف إيراني كبير من هذا السناريو، وهي ما انفكت ترسل الرسائل التحذيرية لإسرائيل؛ تارة عن طريق إرسال رسائل شفوية تتضمن التذكير بما يمكن أن تفعله في حال تعرضت لاعتداء خطير، وتارة عن طريق رسائل عملية تتمثل بتذكير إسرائيل بأنها محاطة بعملاء إيران الذين يستطيعون العبث بأمن إسرائيل بصواريخهم وعن قرب، إسرائيل من جهتها وبدافع من هواجسها الأمنيّة تعتقد أن المنافع التي يمكن أن تجلبها الضربة القاصمة للقوة الإيرانية تفوق كثيراً حجم الخسائر التي يمكن أن تتعرض لها، لكن العائق الأهم أمام إسرائيل هو الاعتراض الأمريكي الذي يصل إلى مستوى ممارسة الضغوط. 

تعتقد الولايات المتحدة – وهي محقة – أن العالم لا يستطيع السيطرة على الآثار الجانبية لحرب أخرى إلى جانب الحرب الأوكرانية، وأن هذه الآثار قد تكون نتائجها كارثية على العالم أجمع، كما تعتقد أن الصراع مع إيران يأتي خلف الصراع مع روسيا في أوكرانيا، والصراع مع الصين حول تايوان في سلّم الأولويات، ولأن الحسابات الإسرائيلية قد لا تكون دقيقة إن هي قامت منفردة بتوجيه ضربة قوية لإيران، بمعنى أن نتائج الضربة قد تعرّض أمن إسرائيل للخطر، وهو ما يعني إرغام الولايات المتحدة على الانخراط في هذا النزاع نتيجة لتعهدها الدائم بحماية إسرائيل، ذلك التعهد الذي لا تستطيع أي إدارة أمريكية التراجع عنه لما له من دعم داخل الولايات المتحدة، من أجل ذلك كله؛ لا تكتفي الولايات المتحدة بدور المعترض على ضربة إسرائيلية أو حرب بين إيران وإسرائيل، فتقوم بممارسة الضغوط على حكومة نتنياهو لمنعها من اتخاذ هكذا قرار.

في مجمل الأحوال يمكن القول إن البيئة التي تسود العالم اليوم هي بيئة استثنائية ومؤقتة، وإنّ كل ما يحصل اليوم من قبل اللاعبين الإقليميين هو لعب في الوقت الضائع بانتظار إغلاق الملفات الكبرى، وبناء على النتائج التي ستفرزها عمليات الإغلاق تلك؛ إما تستمر تلك التحركات والتموضعات على نفس المنوال كتعبير عن واقع جديد، وإما تأخذ منحى آخر.   

إنها بيئة من عدم اليقين يظللها ضباب كثيف عنوانها الخوف والحذر الشديدان، بيئة تجعل التنبؤ بالمستقبل عصياً على كبار المحللين السياسيين. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات