شعراء الثورة السورية سفراؤها الأمناء إلى العالم

شعراء الثورة السورية سفراؤها الأمناء إلى العالم

لطالما كان الأدب عامة والشعر خاصة معبّراً عن واقع الحياة، فكم هي كثيرة تلك المواقف والأحداث التي خلدها الشعر، ولولاه لماتت في وقتها، أو عاشت لجيل أو جيلين ثم أفلت إلى الأبد.

عندما انطلقت الثورة السورية في آذار سنة 2011م لم يكن أحد يتصور عمق وقسوة المخاض الذي سيمر به السوريون حتى يصلوا إلى ما ثاروا من أجله وهو الحرية والكرامة، فأقصى ما كان يدور في خلد السوريين الأحرار في ذلك الوقت أنها سنة من الزمان أو بعض سنة ويسقط الطاغية، وينتهي الأمر، لكن الوقت طال ونال من السوريين ما نال، فمن القتل بالرصاص والبراميل المتفجرة إلى القتل بغاز السارين خنقاً، وصولاً إلى الموت غرقاً في عرض البحار بقوارب مطاطية فضلوها على البقاء في جحيم الحرب وبركانها الذي يلقي بحممه يميناً ويساراً.

ولأن لكل صوتٍ أو صرخةٍ صدى، فإن صدى المأساة السورية كان الأدب عموماً والشعر خاصة، فقد عمل شعراء الثورة السورية على أن يكونوا صوتها إلى العالم حاضراً ومستقبلاً، ناقلين بأحاسيسهم المرهفة معاناة هذا الشعب العظيم وإصراره على الاستمرار في طريق الثورة حتى الرمق الأخير، فإما النصر وإما الشهادة، فهذا الشاعر عبد القادر عبد اللطيف يعبّر عن موقف الشعب السوري الحر في إصراره على المضي قدماً في طريق الحرية غير مبالٍ بهول حجم التضحيات التي قدمها وما زال يقدمها بعد اثنتي عشرة سنة على انطلاق ثورته ثورة الحرية والكرامة:

عمّن يُصَدَّقُ إنْ وعدْ

عمّن تغيّب وابتعدْ

وعن العجائز والولدْ

عمّن يعيش بلا سندْ

عن كلّ أحرار البلدْ

نفنى ولا يبقى الأسدْ 

ولقد مضى الشعر منافحاً عن الثورة على مدى أكثر من عقدٍ من الزمن لا يكلّ ولا يملّ، معبّراً عن قوة صبر هذا الشعب العظيم، وقدرته على كسر حاجز الخوف من نظام مجرمٍ مستبدٍّ عمل على مدى خمسين سنة على قهر واستعباد السوريين، فهذا السوري الحرّ خرج من قمقمه بعد تحطيمه للأقفال ولن يعود الزمن إلى الوراء، فإما حياة كريمة وإما الموت بشرف، فهذا الشاعر حسن النيفي أحد شعراء الثورة الكبار يصف هذا العنفوان في أهل الشام الذين كسروا جدار الذل والمهانة ونفروا خفافاً وثقالاً إلى معركة الحرية والكرامة براقاً يهتدي بآخر، يقول:

لك يا شآم العزّ، أهلـــــــــــــــوكِ الألى                         

كسروا جدار الذل في الأنـــــــــــــــفاق

نفروا خــــــــــــــفافاً واستطاروا أنجماً                        

ومضوا براقــــــــــــــــــاً يهتدي ببراق

يتماوجـــــــــــــــون على موارد فجرهم                       

يا طيب واردة وطيــــــــــــــــــبَ مذاق

ظمأ الطيور إلى حيــــــــــــــــــاض فراتها                 

أترى سيفزعـُـــــــــــــــها رصاصُ الساقي؟

هتفوا بملء الجــــــــرح: لا نـــــــــامت لنا        

عينٌ على ذلّ ولا استــــــــــــــــــــــــرقاق

وتتجلى الهوية الوطنية لشعراء الثورة جلية براقة كالشمس الساطعة، فالثورة ثورة سورية لكل السوريين، والشعب الذي ثار هو الشعب السوري بكل أطيافه، ولم تكن يوماً ثورة فئة على فئة، أو مكوّن على مكوّن آخر، بل هي ثورة شعب مظلوم اسمه الشعب السوري على نظام مجرم مستبد قاتل عمل بكل ما أوتي من قوة ودهاء ومكر ولؤم على أن يجعلها حرباً ضد الإرهاب، ولم يألُ جهداً في زرع أعوانه في صفوف الثورة ليمارسوا كل ما يستطيعون من قذارات حتى يحرموها من حاضنتها الشعبية، فيأتي الشعر الثوري ليبرز الهوية الوطنية السورية على الملأ متجاوزاً الآفاق الضيقة والمنغلقة على نفسها ضمن كل مكوّن، فهذا الشاعر ياسر الأقرع يفخر بانتمائه الوطني إلى الوطن السوري العميق في تاريخه وحضارته، فها هو يقول:

سوريٌّ أنتَ؟ نعم سوري               

حيَّـرتُ الكـونَ بتفسيري

أنا ضدَّ الكسرِ وضدَّ القهرِ               

وضـدَّ الـوهـمِ التَّخـديري

حلـمُ الحـريَّة راودني                        

حلـمٌ سِحـريُّ التـأثيـرِ

وإذا بجهنـمَ قـد فُتِحـت                  

وأنا مندسٌّ.. تكفيـري!

ووحوش الأرض وقد حُشِرت       

تعـوي كالـذئـبِ المَسـعـور

ويجيب ياسر الأقرع عن سؤال لطالما سأله الكثيرون ممن هم خارج أهل الثورة موجّهين إياه لمن هم في صفوفها والمؤمنين بها: (هل ندمت أو ندمتم؟)، فدائماً ما يواجه الثائر هذا السؤال ممن حوله، ولربما اختلفت الأجوبة من ثائرٍ لآخر، وذلك بحسب إيمان كل واحد منهم بقضيته، لكن شاعر الثورة يجيب عن هذا السؤال بكل ثقة، فيقول:

أَنَدِمتَ؟ محالٌ لم أندم                  

ما مرَّ الأمـر بتفكيـري

فبرغم القتلِ.. الأسرِ.. النَّفيِ        

برغمِ السَّحقِ الهستيري

ما زال صدى صوتي قَدَراً..           

أنا أعظـمُ صرخـةِ تغييـرِ

ولعل المعادلة التي اعتمدها النظام في تعامله مع السوريين منذ اعتلاء حافظ الأسد الحكم في السبعينات تقوم على مبدأ من ليس معي فهو ضدي، فالنظام لا يقبل أنصاف الحلول، فهو لا يرضى بغير الولاء الخالص، ومن لم يمنحه هذا الولاء، فهو من المغضوب عليهم إلى يوم يبعثون، فجاء موقف النظام من شعراء الثورة والمنافحين عنها بأقلامهم متناغماً تماماً مع آلية تفكيره التي تقوم على تلك المعادلة التي ذكرناها آنفاً، فهذا الشاعر صلاح الخضر يبيّن سبب غضب هذا النظام عليه وعلى أمثاله من الذين اختاروا أن يقفوا مع الضحية ضد الجلاد، فيقول:

غضبوا .. لأنَّكَ لليتامى تغضبُ

ولأنّ صوتَكَ كالرّصاصةِ يُرهبُ

غضبوا لأنَّكَ شاعرٌ لا يُشترى

بالأعطياتِ وحرفُهُ لا ينضبُ

غضبوا لأنَّكَ ثورةٌ متأصّلٌ

فيها الشّموخُ وفرعُها لا يُحْطَبُ

وبما أنّ الثورة السورية انطلقت في الخامس عشر من شهر آذار، فإن هذا الشهر أي آذار احتلّ مكانة عالية في قلوب السوريين عموماً وشعراء الثورة خصوصاً، فقد أصبح رمزية خاصة عندهم، بل ومكانة مقدسة نظراً إلى أنه الشهر الذي حطم فيه السوريون جدار الخوف وانطلقت حناجرهم تنادي للحرية والكرامة، فكيف لا يتعاملون معه بقدسية، وهو تأريخ للحظة خلاصهم من القمقم الأسدي البشع، فهذا الشاعر إبراهيم الدغيم يخاطب آذار خطاب فخر وعزة قائلاً:

آذارنا يبقى. وتبقى ثورةٌ 

للشعب، تحكي سيرة الشجعان 

تُروى بسيلٍ من دمٍ متدفّقٍ

خطّوا به حرفاً على الجدرانِ

بضفيرةٍ حِنّاؤها بعض الدّما

وبشلوِ طفلٍ كان دونَ ثماني

آذارنا.. يروي الورى مجداً وما

بسواهُ تُروى غُلّة الظّمآنِ

ولعل أبرز ما عالجه شعر الثورة السورية هو الحنين إلى الديار، فالسوريون المهجّرون قسراً عن ديارهم تكاد تلمس بيديك وترى بعينيك البراكين المشتعلة في صدورهم حنيناً وشوقاً إلى مدنهم وقراهم التي تم نزعهم منها كما يُنزع الجذع من أرضه، فسياسة التغيير الديمغرافي التي اعتمدها النظام وحلفاؤه الإيرانيون كانت تقتضي خلع هؤلاء من هذه المدن والقرى واستبدالهم بآخرين غرباء يتم تجنيسهم مباشرة ليصبحوا هم أصحاب الأرض الجدد، بينما أصحابها الحقيقيون يتم قتلهم أو نفيهم وطردهم منها دونما رحمة أو شفقة ليعيشوا في مخيمات لا تصلح حتى لإيواء الحيوانات، فهذه الشاعرة الثائرة ولاء جرود تعبر عن حنينها وشوقها لدارها ومرابع طفولتها حنيناً تكاد تلمسه لمس اليد من شدة صدقه، فيتسرب في زوايا الروح مالئاً إياها بمشاعر الحزن والأسى لهذا المصير الذي آل إليه السوريون المهجّرون، فتقول:

أنا يا دارُ

أهلُ الصّبرِ 

لكن هدّني وصَبي 

فكلّ مهجّرٍ أيّوبُ 

لكن وحدهُ أيّوبُ

بينَ الصّابرين نبي 

ولي أرجوحةٌ يا دارُ

في جنبيكِ تألفُني 

إذا ما جئتُ أذكرها 

كأنّي في رُباكِ صبي 

وأذكر خبزةَ التّنّورِ 

طبيتها وحمرتها

وأيدي جدّةٍ طُبِعتْ

عليها سُمرةُ الحطبِ 

وكرماً فاضَ فيه التّينُ 

والزّيتونُ والرّمّانْ 

وداليةً  تطوفُ بها 

عناقيدٌ من العنبِ 

وبيّاراتِنا

إذ كان يسقي تُربَها جدّي 

بماء الكدِّ والتّعبِ 

ومقبرةً بها واريتُ 

كلَّ ملامح الإخوان

بها واريتُ كلّ أبي

ولعله لا يغيب عن ذهن القارئ الكريم أن مقالة صغيرة بهذا الحجم لا تستطيع أن تلم بكل جوانب شعر الثورة وشعرائها الكثر، وما تم ذكره في المقالة أعلاه غيض من فيض، سواء على مستوى ما طرحه هذا الشعر وما عالجه من أفكار، أو من حيث الأسماء الكثيرة من شعراء الثورة إذ لم نستطع ذكر إلا القليل منهم، فالمقام لا يتسع ولا يسمح، فـ

ســـلامٌ عـلـى الأحــرار ألــفُ تـحـيّةٍ

      مــن الـقلب يـشدوها الـوجودُ لـثائرِ

ســـلامٌ وهــل مـثـلُ الـسـلام تـحـيّةً

      لــكـلِّ أبـــيِّ الـنـفـسِ حـــرٍّ مـثـابرِ؟!

ســـلامٌ أبــاةَ الـضّـيمِ لـيـس بـضـائرٍ

     تـكـالـبُ أهــلِ الأرضِ لـيـس بـضـائرِ

ســــلامٌ يــلـفُّ الـعـالـمين ويـنـتـهي

      عـلى بـاب شـامِ الـعزِّ دون الحواضرِ

على كلِّ شبرٍ من ثرى أرض موطني

      سـلامٌ بحجم الجرح في قلب شاعرِ

 

التعليقات (2)

    ورد سلوم الخالدي

    ·منذ سنة أسبوعين
    ذراعكَ الروسُ مهما طال طولهمُ ذراعنا الدهر من للدهر يلويهِ يا خائن الشام إنّ الشام مقبرةٌ لكلِّ وغدٍ أتى بالسوء يبغيهِ

    كفى

    ·منذ سنة أسبوع
    لا تسيؤوا للشعر!
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات