متلازمة المنتصر الأسدي الفارغة

متلازمة المنتصر الأسدي الفارغة

ترافق "متلازمة المنتصر" المافيا الأسدية، كأي مرض عضال لا يمكن الشفاء منه، منذ أن استولت على السلطة في سورية نتيجة انقلاب عسكري وحتى يومنا هذا. وبالتالي، تعيش حالة ذهنية مشوشة من أوهام التخيل المنتصر، التي لا تسمح لها بالاعتراف بهزائمها مطلقاً.

والمثال الأوضح والأصدق على ذلك هو معاركها الخاسرة مع إسرائيل؛ حتى ما يُعرف بـ "حرب 6 تشرين" عام 1973 التي رفعوا من شأنها إلى مستوى التحرير وكسر غطرسة العدو؛ وكانت في الحقيقة مجرد هزيمة شنيعة تضاف إلى سجل عارهم الطويل، الطويل جداً. ولولا التدخل الأمريكي واتفاقية فصل القوات لوصل الجيش الإسرائيلي إلى دمشق؛ إضافة إلى نقطة مهمة تتلخص في تعهد آل الأسد بعدم إطلاق رصاصة واحدة من طرفهم باتجاه الدولة العبرية (1)!

واليوم، وبعد أن استعانت بالمرتزقة الشيعة العابرين للحدود من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان، وقوات "الحرس الثوري" و"فيلق القدس" الإيرانيين، ومخابرات بوتين وقواه الجوية والبحرية الروسية، يعتبر نفسه منتصراً؛ وقد (حرر) 90 % من الأراضي السورية بين أعوام 2016-2018، والتي خسرها سابقاً عندما تربعت الثورة على قمة عنفوانها الوطني وحافظت على استقلالها وامتلكت قراراتها. لكن حسب المعلومات المتوافرة، فإن هؤلاء المحتلين الغاشمين لم يستطيعوا مجتمعين استرجاع سوى 63 % منها فحسب؛ أما الأراضي الباقية فتتوزع على النحو التالي: 27 % مع "الإدارة الذاتية" الكردية في شمال وشرق سورية (محافظة الحسكة وجزء من محافظتي الرقة ودير الزور).

10 % موزعة على مناطق "درع الفرات" و"غصن الزيتون" في شمال حلب، و"نبع السلام" في منطقة شرق نهر الفرات، وتقع جميعها تحت الحماية التركية؛ و"إدلب الصغرى" الواقعة شمال غرب البلاد وتديرها حكومة تابعة لـ "هيئة تحرير الشام" التي يتزعمها أبو محمد الجولاني؛ ومنطقة طولها 55 كيلومتراً عند "معبر التنف" و"مخيم الركبان" على الحدود مع العراق (تتبع إدارياً إلى محافظة حمص) ومحمية من قبل الأمريكيين؛ وجزء صغير تابع لمرتفعات الجولان الذي تحتله إسرائيل (يتبع إدارياً إلى محافظة القنيطرة)...

لكن، السيطرة على تلك المناطق وحدها لا تؤهل الأسد للانتصار النهائي والتربع على عرش الدم والجثث؛ لأن الانتصار الأخير يكمن في الاقتصاد وليس في الحرب والسياسة. وفي ضوء هذا، نشأت عدة اقتصادات متوازية على مدى سنوات الصراع السابقة، وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالجهات الإقليمية والدولية الفاعلة داخل سورية. فمناطق الأسد مشلولة اقتصادياً وتعاني من أزمات هائلة، وتشهد ارتفاعاً هائلاً للأسعار، وانقطاعاً شبه كامل للمياه والكهرباء، وشحاً في مشتقات النفط والغاز، وتدهوراً في قيمة الليرة..، أما المناطق الأخرى التي تقع تحت سيطرة الأكراد وعلى الرغم من أن الاتصالات التجارية لا تزال قائمة مع المناطق الحكومية، فإنها تعتمد على الأمريكيين وسلطات كردستان العراق، أما شمال غرب سورية وإدلب فتستند كلياً على الأتراك والقطريين... إضافة إلى عدم استقرار الأوضاع بالنسبة للأسد في جنوب البلاد (محافظات درعا والقنيطرة والسويداء)، ووجود عوامل أخرى مهمة، مثل: مصالح النخب الاقتصادية المحلية التي تشكلت على مدى سنوات الماضية، وتأقلم سلطات الأمر الواقع فيها على العيش بدون الأسد، وتعوّد الناس على حالة شبه مستقلة بحيث لا يريدون الخضوع لشبيحة شرطي قاسيون مرة أخرى وتقاسم الدخل معهم!

الوضع صعب وكارثي في كل المناطق تقريباً مع أفضلية للمناطق التي يديرها الأكراد؛ حيث تعاني من دمار البنية التحتية، وقلة المرافق الخدمية والطبية والتعليمية، وعدم توفر مياه الشرب، وغياب مشاريع الصرف الصحي، وتفشي الأمراض المعدية كوباء الكوليرا.. والأهم من ذلك كله عدم شعور المواطن بالأمن والأمان...

وفقاً للأمم المتحدة، احتاج 11.1 مليون سوري إلى المساعدة عام 2020، و13.4 مليوناً عام 2021. ارتفع هذا الرقم بعد عام، ليصبح نحو 14.6 مليون شخص معتمدين على المساعدات الإنسانية. صرح الممثل الخاص للأمم المتحدة في سورية غير بيدرسن في 23 سبتمبر 2022: "إن الوضع في سورية يزداد تعقيداً كل يوم عندما نتحدث عن الظروف الاقتصادية... يعيش 9 من كل 10 سوريين في فقر، وأكثر من 14 مليون شخص بحاجة إلى مساعدة إنسانية"!

تفاقمت الأزمة الإنسانية بسبب الزلازل المدمرة التي ضربت تركيا وسوريا في فبراير 2023، فقد قُتل الآلاف، ودُمرت بيوت ومبانٍ كثيرة، وأُجبر الناس على الهروب واللجوء إلى أماكن أخرى. يتزايد باستمرار عدد السوريين المحتاجين إلى المساعدة الإنسانية، فقد بلغ عددهم أكثر من 15 مليون عام 2023، إضافة لمعاناة 65 % من انعدام الأمن الغذائي، وعيش نحو 90 % تحت خط الفقر! 

لذلك، لا يمكن الحديث عن أي انتصار هنا مع هذه الأرقام المخيفة، ولا يمكن إشعال الضوء في نهاية النفق المظلم الذي أدخل فيه الأسد البلاد. ومن المستحيل القيام بعمليات إعادة الإعمار، رغم إجراء المشاورات النشطة بين دمشق وعواصم مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدمتها الإمارات العربية المتحدة وعُمان والسعودية منذ صيف عام 2021، ومحاولة إطلاق سياسة "الباب المفتوح"، التي تضمن تمويل مشاريع الإنعاش المبكر من قبلها. قد يتماشى هذا السيناريو مع سياسة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لاحتواء إيران، على الرغم من العقوبات الأمريكية ضمن ما يعرف بـ "قانون قيصر"! 

تحاول موسكو بشتى السبل مساعدة الأسد من خلال فتح الطرق له نحو دول الخليج العربي أو بيلاروسيا أو تركيا للتخلص من الوصاية الإيرانية التي تحاول استخدامه لنشر التشيع وإقامة كنتونات مسلحة تتبع لها في البعد الجغرافي الشرق متوسطي، ومن ثم إحكام السيطرة نهائياً على البلاد وتضييق الخناق على أنفاسه. ففي 18 يناير 2022، استولت القوات المسلحة الروسية على ميناء اللاذقية بناء على طلب السلطات السورية، وأصبح تحت حمايتها على مدار الساعة بحجة وجود تهديدات لـ "تنفيذ هجمات إرهابية على ميناءَي طرطوس واللاذقية من قبل مجموعات تخريبية من العصابات الإرهابية المتطرفة في منطقة خفض التصعيد". لكن الحقيقة هي محاولة سيطرة الإيرانيين عليه بشكل كامل. ومن أجل ذلك وصلت مفرزة مؤلفة من ست سفن إنزال كبيرة تتبع لأساطيل الشمال والبلطيق الروسية إلى الساحل الروسي/ السوري.

أصدر رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين في فيراير 2022 تعليمات إلى وزارتي الدفاع والخارجية لإجراء محادثات وتوقيع اتفاقية مع بيلاروسيا بشأن تقديم المساعدات الإنسانية لسورية، والتي بفضلها يمكن لمينسك إرسال وحدة عسكرية إلى دمشق قوامها 200 شخص لتقديم تلك المساعدات. وبنفس الوقت تدعو موسكو إلى إضعاف نظام العقوبات المفروضة على دمشق، والبدء في إعادة إعمار البلاد وبناء الاقتصاد. وإلى تغيير آلية إمداد المساعدات الإنسانية العابرة للحدود وحصرها بحكومة الأسد فقط، لأنه "ينتهك سيادتها" - حسبما صرّح الممثل الخاص للرئيس الروسي في سورية ألكسندر لافرنتييف! 

كذلك قامت روسيا، من خلال وجود قواتها العسكرية في المناطق المختلفة من تنظيم ما عُرف بـ "المصالحات المحلية"، وبنت مصفوفة أمنية لخلق مناطق استقرار، وساعدت على إجراء حوارات مصغرة بمشاركة ممثلين عن الأكثرية السنية والأقليات العرقية والطائفية. كذلك حاولت المساعدة على إحياء وحدة العلاقات الاقتصادية ودمج النخب السورية المحلية في تسلسل هرمي على أساس مبدأ اللامركزية، باستخدام اتصالاتها المتراكمة مع جميع الأطراف...

كل هذا لا يفيد شيئاً في تبييض وتعويم الأسد، الذي يحتاج في المقام الأول إلى الشرعية الدولية وإلى المال الخليجي، إذ لم تعد القضية السورية في قلب السياسة العالمية خلال هذه الفترة التاريخية؛ فكل الأنظار تتجه نحو أوكرانيا! 

لقد توقفت عملية السلام بعد 17 جولة من المفاوضات بين وفود الأسد والمعارضة في "صيغة أستانا"، ولم تقدم ست اجتماعات لـ "اللجنة الدستورية" في جنيف أي شيء يذكر... سيبقى وضع البلاد متدهوراً، ما دام الأسد موجوداً في سدة الحكم ولم يتغير نظامه قيد أنملة؛ وجاهز في أي لحظة لشن حروبه الدموية الإجرامية ضد شعبه... لن يقدم أي تنازلات، ولن يقوم بإصلاحات دستورية تكفل تحول دولته الطائفية الأمنية إلى جمهورية برلمانية؛ لأنه ما زال يعيش على أوهام "متلازمة المنتصر" الفارغة، ويعتبر أي تنازلات من طرفه عبارة مظاهر ضعف غير مقبولة كلياً.  

(1) للمزيد يمكن مراجعة مقالي عن هذا الموضوع: د. علي حافظ. عندما تفوق آل الأسد على آل تل أبيب، موقع أورينت، 2022-09-24.

التعليقات (1)

    Nadim

    ·منذ سنة أسبوعين
    النصيرييون وهذا إسمهم الحقيقي بعد أن بدل الفرنسيين إسمهم لإسم الغلويين ضحكا على السنة ولائهم دائما لشيوخ طائفتهم .أي تركي ينتخب أولوجدار أغلوا فهو كافر زنديق حتى ولو كان سنيا لأنه يمكن لهذا العلوي كاشدار أغلوا من رقاب الترك السنة. فيبع تركيا ويفككها.أنظروا ماذا حل بالسوريين عندما سلموا رقابهم للعلويين لقد قتلوا منهم مليونين وهجروا منهم أربع عشر مليونا. وداعا ياتركيا إذا حكمها هذا العلوي.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات