"خوفاً من الصياد" طريدة سورية نجت من القتل واستجارت بالفزاعة

"خوفاً من الصياد" طريدة سورية نجت من القتل واستجارت بالفزاعة

ليس بعيداً عن فوهة بندقية الصياد، وبجرح نازف، يطلق الشاعر والقاص "رأفت حكمت" أنينه بمجموعته النثرية المعنونة بـــ "خوفاً من الصياد" لتكون سيرة ذاتية لطريدة من حيث وهلتها الأولى، وسيرة جمعية لطرائد بعد الانخراط ما بين سطورها، هي شهادة غريب نجا بالصدفة، ولولا ذلك لكان شاهداً أخيراً على دمه حين يراق، شهادة طير دفعه الخوف من الصياد إلى الاستجارة بالفزاعة بعدما ضاقت الحقول واشتعلت السماء بألوان النار، حاله حال ملايين الطيور السورية التي هُجّرت من الفخ / الوطن/ لتربض في ظل فزاعة تمثّلت بغربة وذكريات...

عرض مسرحي:

بالتأكيد، لن أستطيع الوقوف في مساحة محايدة عند تناول هذه المجموعة، فـ "حكمت" مثلما وجد نفسه مرمياً يكتب من داخل دُرج معتم، استطاع بحيلة ربما، أو بسجية الجريح أن يشركني في كلماته، فها أنذا مرمي إلى جواره وآلاف مثلنا، ننتظر بكل الحزن أن يُسدل الستار على عرضنا، لكنه يظهر كأكثرنا جسارة عندما يصرخ على الملأ: 

أكتبُ من خارج وطن ضيق

إلى جواري آلافٌ مثلي، وذكرياتٌ وحدود

وفي الداخل مقصلة الجوع.

أنا السوري الذي...

أقف وحيداً على خشبة مسرح العالم 

منتظراً بكل الحزن

أن يُستر على عَرضي.

ومما سبق، وفيما بعد أيضاً، يتضح اتكاء "حكمت" على المشهدية والتصوير والسرد القصصي كحوامل للشعرية الضمنية، تقدم لها وتتماهى معها؛ للوصول إلى الخاتمة التي عمل عليها في كل مقطع على حدة، حيث واظب على نفس سردي واحد طيلة المقطع وختمه بجملة شعرية مكثفة وواضحة، تُراوح بين الحيلة اللغوية، أو اللعب على الفكرة ذاتها، وهذا التكنيك الواضح، ليس وليد نصه النثري فحسب، بل هو ما جلبه "حكمت" من أدواته القصصية، وبالتأكيد لم يقف عند حدود هذا التكنيك، بل جعل من مجموعته حقلاً للرمي، جرّب فيه التصويب في معظم الاتجاهات الشعرية، وباعتقادي أنه أصاب، فها هو يشير مذعوراً إلى دمشق ويرتجف تارةً، ويهرول مُطارداً بالذكريات وبحبيبة يبست أطراف أصابعها وخفّ الضوء في عينيها من قلته تارةً أخرى... يعاتب نفسه بحب لا يليق برجل طردته بلاده، ويحمل كل موت مرَّ به، ابتداءً بموته الأول، حين عجزت أمه عن كسر يد القابلة، وانتهاءً بالنجاة، حيث صار الموت آخر همه...

ما يردي الغزال قتيلاً، ليس الخوف

إنما ظن الغزال

أن جوع الذئاب أسرع من نجاة الطرائد.

لا يعلم الغزال

أن التفاته إلى الوراء، كلفه حياته.

القلق سماد لشجرة القصيدة:

ومن المؤكد سيتعثر قارئ "خوفاً من الصياد" بقلق منتشر على طول المجموعة، قلق كالشوك، قلق أراده الكاتب سماداً للقصيدة، لا كبوح عما يختلج داخله فقط، بل لابتكار موضوع موحّد تشتمل عليه المجموعة أيضاً، فمنذ العنوان الذي يقدم مفردة الخوف صريحة من دون تورية، وصولاً إلى المتن حيث الحنين وغارات الذاكرة الفجائية، حيث الهواجس وانعدام الاستقرار، وحيث الانتظار...

باعتبار أن الوقت خارج خصرك يكون أبطأ

أقوم بزرع كل أصابعي في طينك

وأنتظر اخضراركِ... 

ولا يقل حضور الأنثى عند "حكمت" من حضور باقي الموضوعات، فهي بتأويل ما: الوطن الذي يحاصره أينما حل، وبتأويل آخر، تظهر كعقدة لدى الكاتب أو كعلاقة معقدة ينشد الخلاص منها عبر سحب قلبه من مكانه كرمانة ورمي الأنثى بها... تلك الأنثى التي لا بد من لغة يستطيع التحاور من خلالها معها، حتى وإن كانت مجرد لغة ماكرة تحترف الجلوس بإغواء على حافة قلبه..

تباين ولا أهداف واضحة، فهذا هو الشعر، مخلوق لا يمكن ترويضه أو توجيهه نحو وجهة محددة، وهو بين يدي كاتبه قطعة صلصال يحاول صقلها بما يتفق مع إرادته، لكن، تجري رياح القصيدة بما لا تشتهي سفينة "حكمت".

ومن خلال الأشكال الخارجية للنصوص نلاحظ تدوين الكاتب حيثيات همومه وأحزانه اليومية وآلامه والكثير من مشاعره الصاخبة والصامتة المرتبطة بالحس الجمعي لا الفردي كما هو ظاهر، بلسانه تارة، وبلسان الآخر تارة أخرى؛ ليخلق حالة من الابتكار والخصوصية في ملامح نصه على مدار المجموعة كاملة، وقد حضرت السيميائية وتجلت، ليس في العلامات والرموز التي قلما استخدمها الكاتب، بل في كثافة حالة الانتظار، وفي الفراغ الذي تنتهي إليه الكلمات المتناثرة في النص، فإن كانت الكلمات تقول شيئاً، فالفراغ يقول أكثر، ويسعى ليحرك الروح في تلك الفسحة البيضاء، فلم يكن التسطير في النص أداة للتوفيق الإيقاعي أو تحسين الصورة الكلية بقدر ما كان له دور في فتح طريق آمن للكلمة لتعبر منه إلى الروح المتلقية، وفي بعض المواضع ينزح "حكمت" نحو التسطير الأفقي / السردي، وهنا تحسب للكاتب لحظة تمرّد على الشكل السائد، ويحسب عليه انحيازه الشديد نحو إيصال الفكرة لمتلقيه. 

ولأنني أكره الانتظار

أوهم نفسي في كل مرة تتأخرين فيها

أن المواعيد معك

صدفة جميلة أفلتت من عقارب ساعتي.

أستطيع أيضاً

التعامل مع كل القصائد التي ترسلينها إليّ

على أنها الحقيقة...

وليست مجرد لغة ماكرة

تحترف الجلوس بإغواء على حافة قلبي

قلبي السرير البارد... يؤلمه خشب أصابعكِ.

 بخُطا متوجسة، ولغة رقيقة وطافحة بالكبرياء في آن واحد، يعدد الشاعر "رأفت حكمت" الفخاخ والكمائن المنصوبة حوله، يراوغها، يتملص من أن يكون هدفاً في منظار بندقية الصياد، يحاور موته الذي يراقب خُطاه، يكتب عن الحب على لحاء أشجار غابة الحياة، ولا يعدو عن كونه طريدة..

عن الكاتب والكتاب:

"رأفت حكمت": شاعر وقاص سوري، حاصل على جائزة الشارقة للإبداع العربي عن مجموعته القصصية "كأنني كنت أحلم"، له مشاركات كتابية، شعرية وقصصية مع كتاب وشعراء عرب، أبرزها: 

متحف الأنقاض

الديكاميرون

أحاديث الجائحة.

مجموعة "خوفاً من الصياد": صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات