في الوقت الذي قررت فيه حكومة نظام أسد رفع أجور ارتياد المراحيض العامة، كانت الصين تستثمر اصطفاف كوكبَي المشتري والمريخ لصالح شراء تطبيع إيراني سعودي نادر الحدوث، مفاجئ الطالع والتوقيت، فالأنفاس في المنطقة مرهقةٌ من تلاقي طبائع الكواكب المتضاربة، منذ صدقت توقعات "فرانك هوغربيتس"بشأن كارثة زلزال الشمال، وتخشى حدوث المزيد من اللعنات المؤرشفة في سجلات النجوم العجيبة، ولم يكن بمقدور أحد التنبؤ بالتئام أوصال تقارب إيراني سعودي ظهر كما لو أنه أحد عروض الأزياء المبتكرة على هيئة "الشراشيب" تلك التي أبدعها "مايكل كورس" لربيع وصيف 2023.
البحث خارج الوصاية
لا تمتلك الدول العربية الخاضعة للوصاية الإقليمية المباشرة خيارات التعافي من محنها السياسية والاقتصادية، سوريا في مقدمتها، وإلى جانبها أيضاً لبنان والعراق واليمن، والتي لا يظللها شيء لتتدارى به من تسلّط إيران الجهنّمي عليها.
وأثناء إعداد مسودّة التفاهم الإيراني السعودي على الطريقة الصينية، كانت إسرائيل تتسلّى بقصف مطار حلب، وبعض المواقع العسكرية الإيرانية في ريف مصياف، تلك التسلية شبه اليوميّة التي تستمتع بها إسرائيل، وترفع درجة "السكّري والضغط" لدى "محور الممانعة".
لكن التفاهمات الإقليمية الكبرى حين تعبر، تبدو كما لو أنها أحداثٌ مفصلية تُمطر السياسة بمفهومها الراكد، المستند إلى ثوابت ومسلّماتٍ هامدة، لا تنمو، ولا تتجدد، والسياسة ليست كذلك منذ عرّفها "هارولد لاسويل" بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا؟!، فتصير تلك التفاهمات بمثابة إعادة ترسيم حدود النفوذ والمصالح بين الكبار على حساب الصغار، بين إيران والسعودية على حساب سوريا ولبنان والعراق واليمن.
فالأنظمة الإقليمية تقيس مقدار نفوذها بعوامل قوّتها الذاتية ونموّها الاقتصادي، وتطرح من ذاك الناتج حجمها السياسي الخارجي وتحالفاتها القائمة، والامتيازات أو العقوبات المطبّقة عليها، ثمّ إن تلك الحسبة تتبدل بين حين وآخر، وتفرض تغيّراً في السلوك السياسي الخارجي أو الداخلي على السواء، وما الاتفاق السعودي الإيراني إلا تعبيرٌ ديناميّ عن طبيعة المتغيّر السياسي، ما يدفع بالاعتقاد إلى نشوء تسويات جديدة، ومساومات إضافية تطال مصائر الأنظمة السياسية القابعة تحت الوصاية الإيرانية السعودية بنسب متفاوتة، فالسعودية حاضرة سياسياً في اليمن ولبنان، وغائبة عن العراق وسوريا، فيما إيران تمسك بأعناق تلك الدول الأربعة، وبأعناق أنظمتها السياسية، وقد لا تتستّر إيران هنا على استسهالها التخلّيَ عن وجودها في اليمن، ذلك أنه وجودٌ خلقهُ نظام الحرس الثوري ليتسبب من خلاله بصداع خليجي، وسعودي بصورة خاصة، مع إمكانية الشفاء منه بواسطة مسكّنات المفاوضات لاحقاً، وهذا الصداع الإيراني المصابة به دول الخليج يمتد أيضاً إلى العراق، وبالإمكان أيضاً التداوي منه ضمن جلسات علاجية، في غرف مفاوضاتٍ جادة.
في وقتٍ لا تمتلك السعودية فيه أي أوراق ضغط قد تدفع بها أثناء لعب البوكر على الملفين العراقي والسوري، لكنها قد تصل إلى مخرجٍ تفاوضي مع إيران بما يخص انتخاب رئيس جديد في لبنان، إن كانت تأخذ الشأن اللبناني على محمل الجد في هذه الفترة، وهي الداعمة الرئيسية للفريق السياسي السنّي الأقوى في لبنان، بعدما صارت قيمة أعلى ورقة نقدية في لبنان أيّ المئة ألف ليرة تساوي قيمة أصغر ورقة نقدية من فئة الدولار.
محاولة لارتياد الأعماق!
قد تتلبّد غيوم السياسة على السطح المرئي، الملامس للحيّز المنظور منها، فتصير الألوان والمفاهيم ملتبسةً في أعماقها، كأن نعزو مثلاً محاولة التقارب الإيراني السعودي إلى الحضور السياسي الباهت، وعديم القيمة للولايات المتحدة داخل دول الشرق الأوسط، والذي أربك بمفاعيله أدمغةَ الأنظمة السياسية في المنطقة، وحثّها للبحث عن توليفاتٍ سياسية جديدة، وأكثرَ مواءمة لواقعها الجديد. ربما تبدو الأمور على هذه الشاكلة حال النظر إليها ضمن هذه الاستدارة من الأفق، أو ربما تكون كذلك على هذا العمق تحديداً.
لكن ماذا لو كان ظاهر السياسة غير باطنها، ماذا لو كانت السعودية المجرّدة من الحماية العسكرية الأمريكية، بعدما رفضت الأخيرة تسليحها بما يردع إيران عسكرياً، أو على الأقل المصادقة على برنامجها النووي السلميّ، تخشى من الانتقام الإيراني؟! ماذا لو كانت إسرائيل تستعد للملحمة الكبرى مع إيران مطلع هذا الصيف؟! الأرجح أن إيران ستهدي جميع دول الخليج تذكارات دمار، وهي تزول إثر الحرب الإسرائيلية المرتقبة عليها، فيكون التطبيع السعودي الإيراني في هذه الحالة تكتيكاً استباقياً يقي السعودية ودول الخليج من ردود فعل نظام الحرس الثوري حال يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهنا لن تقوى الولايات المتحدة على كتم ضحكتها المسمومة، مهما دارتها براحة يدها المبسوطة فوق فمها المائع، تلك التي تقول: "لا دخل لي".
فحين يقرر "نتنياهو" ميلاداً جديداً للمنطقة والمرحلة، ستبدو سرقات "عصابة الأسد" لبراز الناس في المراحيض العامة أمراً ثانوياً، وستبدو العفّة الأمريكية وحيادها أمراً ثانوياً أيضاً، وإن قال محمود درويش في مديحه للظلّ العالي: "أمريكا هي الطاعون، والطاعون أمريكا" يستوجب علينا أن نصححح له منذ الآن، وأمام استباحتنا ومهانتنا القصوى: "المايسترو هي إسرائيل، وإسرائيل المايسترو" وعلينا أن نقبل تلك "المزّيكا" كلما حفرنا ظلنا، وكلما رقصنا على ضوء ظلنا الخافت، وكلما أغلقنا الباب عليه، وجلسنا في تلك الغرفة بمفردنا.
التعليقات (0)