الزلزال وضحكة الشيطان

الزلزال وضحكة الشيطان

مرة أخرى تُترك مناطق الثوار وحيدة أمام غول الزلزال، كما تُركت أمام الزلازل الأسدية وهزاتها الإيراروسية الارتدادية السابقة، التي ضربت كل الأراضي السورية حينها وكانت أكثر تدميراً وخراباً وقتلاً وإرهاباً وتشريداً... مرة أخرى لم تستطع الدول أن تتفق على صيغة معينة من أجل مساعدة السوريين المنكوبين في الشمال؛ كما لم تتفق على كيفية التعامل مع جرائم الأسد التي فاقت بتصورها كل الكوارث مجتمعة... 

مرة أخرى بقيت هذه المناطق عدة أيام تقاوم لوحدها تدعيات الزلزال، محاولة بلحم وعظام أصحابها إنقاذ العالقين تحت الأنقاض وانتشال الضحايا الذين هجّرهم وشرّدهم بشار الأسد نفسه؛ كما فعل أهل حمص والغوطة وحلب أثناء الحصار والتجويع والقصف بكل أنواع الأسلحة والذخائر، بما فيها الكلور والسارين وغيرها من المواد المحرمة دولياً.

مرة أخرى يقف الجميع عاجزين عن الفعل والتصرف؛ كما وقفوا مكتوفي الأيدي حيال ما اقترفه الأسد ومخابراته وجيشه وشبيحته بحق السوريين الأبرياء طوال نصف قرن من سنوات حكمهم العجاف... مرة أخرى يعيش الديكتاتور محافظاً على بذخه ورفاهيته وعجرفته، ويموت عامة الناس غير قادرين حتى على إطعام وإكساء أنفسهم... مرة أخرى يستفيد من المآسي والمصائب، ليصبح محط اهتمام وكرم هيئات الأمم وأنظمة الاستبداد البائدة، بينما يتم تناسي أولئك المساكين وتركهم للفتات والشفقة.

مرة أخرى ينعق من هنا وهناك كالبومة، مكرساً الشؤم والخراب والتيه.. مرة أخرى يظهر رمز الحروب التي لا تنتهي ضد شعبه، ليشمت بنا ويضحك في عقر وجعنا حلب؛ وكأنه في حفلة سمر وترفيه وتسلية... يقف بين الجموع المحيطة ليبرز سخافته وخفة دمه القطراني السميك، مبرهناً على قمة انحطاطه، مثبتاً ما قاله الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بأن الإنسان "هو الحيوان الوحيد القادر على الضحك"! 

مرة أخرى يغيّر جميع الممثلين أشكالهم وجلودهم حسب الأدوار التي يقومون بها إلا ممثل طائفة الوحوش الفاشل؛ الذي دائماً ما يضحك في المستويات الأعلى صخباً وتشنجاً: أثناء استخدامه للأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة والصواريخ ضد السوريين، وأثناء قصف الإسرائيليين لعاصمته ومدنه، وأثناء خطاباته العقيمة التافهة، مروراً بالزلزال الأخير..، ليدل على أنه عديم المشاعر ومفكك الأحاسيس، لا سيما في أوقات العزاء المأساوية، حيث ينتظر الناس كلمات تعاطف ومواساة.

مرة أخرى يكرر ضحكه غير العفوي والذي لا يحمل أي معنى فطري، دون أن يدرك أن المسافة بين الجاد والساخر قصيرة جداً. 

أي عاقل يضحك على شيء لا يمكن الضحك بشأنه كالزلزال، حيث يموت الناس تحت ركام بيوتهم أو يهربون من الخوف في آخر لحظة نحو المجهول؟ أي عاقل يفعل ذلك خلال مشاهد الحزن والألم والفزع أو حتى على مسارح الكوميديا السوداء؟ أي عاقل لا يستطيع أن يُظهر تعاطفاً مع المصابين والضعفاء وغير المحميين؟ أي عاقل لا يدرك أين تتوقف حدود السخرية حتى لا يضحك على مصائب الآخرين؟... 

طبعاً، هو لا يعرف أن "السخرية هي شكل من أشكال الفن، مثلها مثل أي فن، يعرض الجاد بطريقة مسلية" حسبما يصفها المفكر هانز هولز، لذلك، فإن تقنية التقاط الأداء التي استخدمت في صناعة فيلم "أفاتار" من أجل تمكين الممثل آندي سركيس على لعب دور الشمبانزي قيصر، وذلك ليس من خلال إلباسه في هيئة شمبانزي وإنما بالتقاط كل لفتة وحركة من وجهه وحاجبيه ليتم تحويلها إلى حركات قرد، لا تناسبه أبداً؛ فهو يمكن أن يكون قيصر ذاته هكذا بكل سهولة.. لقد وُجد هذا القرد القميء أصلاً لمثل هذه الأدوار؛ فجيناته البدائية تحفزه على القيام بذلك! 

إنه يغيّب لغة العقل والمنطق، ولا يسمع إلا ما يريد سماعه ولا يرى إلا ما يريد رؤيته فحسب.. لن يصل أي شيء إلى وعيه، لأنه لا يطوّر ما في ذهنه أبداً ويبقيه في حالة هلامية نيّئة.. يرغب في العيش بعالم افتراضي هزلي يستطيع فيه تسفيه كل ما لا يتناسب مع رؤيته للموقف؛ فلديه صورة مفادها أنه الأفضل والمعصوم عن الأخطاء، وأنه على حق دائماً ولا يمكن لومه.. هناك دائماً أطراف أخرى مسؤولة عن سوء الأوضاع...

وهكذا، بعد كل الذي جرى ويجري، كيف لنا أن نصدّق أحداً أو نضع أيدينا بأيدي الآخرين الصامتين على إرهاق دمنا وإزهاق أرواحنا؟.. كيف لنا أن ننظر في عيون الذين يبتسمون لنا الآن؛ ولا نخاف من مكرهم وغدرهم وقت الحاجة والشدة؟.. كيف لنا أن نعيش بهدوء وسلام والكل يتربص بنا حتى الطبيعة؟.. كيف لعقولنا أن تتحمل كل هذه الجرائم والمجازر الأسدية والمصائب والكوارث الزلزالية؟ كيف لأرواحنا أن تبقى غير ممزقة وتحملنا إلى مثوانا الأخير قبل حلول موعد غروبنا بكثير؟.. 

ماذا فعلنا ليحل بنا كل هذا الخراب والدمار والموت؟.. أما يكفينا حصاراً وتهجيراً ونفياً؟.. 

هل نحن هنود القرن الواحد والعشرين الحمر؟  

منذ نصف قرن ونحن نعاني من ترهيب السجون والمعتقلات.. منذ نصف قرن ونحن ننزف الآهات والدماء والأرواح... منذ نصف قرن ولم نرَ النور ولا حتى بصيصه.. نصف قرن وآل الأسد ينكّلون بنا بكل ما يملكون من جشع ووحشية.. نصف قرن ونحن نسير في ظلمهم الدموي من مجزرة إلى مجزرة أكبر؛ ومن جريمة إلى جريمة أفضع؛ ومن كارثة إلى كارثة أعظم؛ ومن زلزال إلى زلزال أشد وأعنف... أما آن لاختباراتنا أن تتوقف؟ أما آن لعذاباتنا أن تنتهي ونعيش بسلام وأمان وكرامة؟ أما آن لنا أن نتحرر من ربقة وبراثن آل الظلم والخوف والرعب؟

لقد قتلوا كل الألوان فينا ولم يتركوا لعيوننا سوى السواد ولقلوبنا سوى الرماد.. ألغوا كل الفصول ولم يبقوا لنا سوى شتاء الموت.. في ظلهم أصبحنا أكثر الشعوب بؤساً وتراجيدية وتخلفاً... لن يتغيّروا حتى ولو تغيّر كل العالم من حولهم.. إن كسر القلوب وإذلال الناس والقتل الجماعي هي أكثر الأشياء متعة بالنسبة لهم!

لم يترك الأسد أحداً دون أن يؤذيه؛ فقد نضح دماً من رأسه حتى أخمص قدميه.. لقد فُرضت عقوبات كثيرة عليه، لكنه تهرّب منها بشكل أو بآخر نتيجة المواقف الدولية المخزية والمساعدات السرية التي ترسلها له بعض الدول.. عُزل ودُفن حياً، إنْ صحّ التعبير، مئات المرات، وحُصر في الزاوية كأي جرذ بائس، لكنه عاد من جديد، معتبراً أن كل ما فعله هي مجرد خسائر جانبية لحربه ضد الإرهاب والجماعات التكفيرية؛ وليست جرائم ومجازر وإبادة جماعية...

عندما قرأ العالم كله رواية "أرخبيل الكولاغ" للكاتب الروسي المنشق ألكسندر سولجنيتسن شعر بالرعب والخوف من الاتحاد السوفييتي؛ وعندما سيقرأ رواية "القوقعة" لمصطفى خليفة وغيرها من الكتب التي صدرت بعد ثورة الشعب السوري، سيعرف أخيراً أن نظام الأسد هو امتداد ثلاثي الأبعاد لذلك الرعب، لكن سيكون الوقت قد تأخّر لإنقاذ من بقيَ حياً من ذلك الشعب المسكين قبل أن يطلق الشيطان ضحكته الساخرة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات