مسؤولية مقدّمي البرامج التلفزيونية

مسؤولية مقدّمي البرامج التلفزيونية

يقع مقدّمو البرامج التلفزيونية -مثل كلّ الناس- في المسؤولية الجزائية طالما توافرت أركانها وتوافرت عناصر التجريم، كيف؟ وما هي هذه العناصر؟ ما التبعات القانونية لثبوت المسؤولية في هذه الحالة؟، وهل يكفي القانون وحده؟.

عموماً فإنّ المقصود بالمسؤولية الجزائية تحمّل النتائج التي تترتّب عن عمل توافرت فيه أركان الجريمة، وهذه النتائج بطبيعة الحال هي العقوبات التي يقرّها القانون، وفي حالة ثبوت المسؤولية الجزائية فإنّ من حقّ المضرور أو المدّعي -حال وجوده- المطالبة بالشقّ المدني من الحقّ وهو التعويض سواءً كان مادّياً أم معنوياً.  

لكن قبلاً.. هل لدينا تعريفات دقيقة للتراكيب أو المصطلحات الخاصّة بهذه المسألة؟، وبشكل أساسي: ما هي البرامج التلفزيونية ومن هم مقدّمو البرامج التلفزيونية؟. 

يمكن تعريف البرامج التلفزيونية بأنّها أعمال تنفّذها قناة تلفزيونية ما خلال أوقات معيّنة من خلال الصورة والصوت في مواضيع شتّى سياسية اقتصادية ثقافية اجتماعية ترفيهية.. إلخ، وسواءً تمّ بثّها مباشرةً أم سُجِّلت تسجيلاً. أمّا مقدّم البرامج التلفزيونية فهو الشخص الذي يُتيح لجمهور المشاهدين رؤية هذه الأعمال أو التفاعل معها عبر قناة التلفزيون التي يعمل فيها، ومن المفترض أن يكون هذا الشخص مؤهّلاً ومؤثّراً في طروحاته وفي طريقة إدارته للبرنامج.

يستند تجريم البرامج التلفزيونية -وليس مقدّموها فحسب- على مبدأ إضفاء الحماية الجزائية على المصالح المشروعة للناس بمنع انتهاك هذه المصالح أو الإضرار بها أو التهديد بذلك، فعلى محطّات التلفزيون تحمّل مسؤوليتها عن البرامج التي تنتجها أو تتبنّاها فتبثّها أو تسجّلها، وعلى إدارات هذه المحطّات معرفة ما هو مشروع وما هو ليس مشروعاً، والأهمّ من المشروعية القانونية خاصّةً على مستويات الإعلام بأشكالها إدراك مدى تمتّع الموادّ أو الأعمال المقدَّمة بالمشروعية الاجتماعية والأخلاقية، وهذا ما يقتضي وجود منظومات إدارية داخلية لكلّ محطّة تلفزيونية تُعنى بالحثّ على سلوك كلّ درب نبيل في العمل الإعلامي، وبالإشارة إلى عواقب مخالفة هذا السلوك، وعلى هذه الإدارات بشكل أساسي أن تطبّق معايير المهنية المتوافق عليها، وإن كانت المحطّات التي تديرها أساساً تابعةً أو موجَّهةً أو ليست حياديةً، وهنا مربط الفرس: الحدود بين القانون والتوجّهات السياسية أو أيّة توجّهات أخرى، فقد يكون كلّ شيء قانونياً لكنّه لا يلائم التوجّه السياسي أو الديني للآخرين، وقد يلائم البعض أن يتمّ تركيز المحطّة التلفزيونية على قضايا وتوجّهات سياسية أو غيرها وإن خالف طرحها قواعد القانون أو أصول القيم والأعراف الاجتماعية والأخلاقية. 

تدفعنا وتدفع مقدّمي البرامج على مذاهبهم وعلى أشكال وأنواع ما يقدّمونه توجّهات إنسانية مختلفة متعدّدة، لكنّ هذه التوجّهات غالباً ما تكون لدى مقدّمي البرامج مماثلةً لتوجّهات المالكين أو المشغّلين أو المانحين، وهذا هو ما يضفي على المسؤولية طابع التضامن بين مقدّم البرنامج ومعدّيه إضافةً إلى إدارة القناة، ولأنّ القنوات التلفزيونية أشخاص اعتبارية فلا تسري عليها من أنظمة العقوبات الشخصية سوى الغرامة والمصادرة إن أمكن، وبالطبع لا تتحمّل القنوات التلفزيونية أيّة مسؤولية عن نقل مباشر لحدث وعن مجرياته وإن كانت محتملةً ما دامت قد راعت أصول المهنة وقواعد النظام العامّ، أمّا بثّ أو نقل أحداث أو مناسبات أو أعمال غير مشروعة أصلاً وإن كان على سبيل النقل، فيوجب المساءلة لأنّه يعدّ اشتراكاً أو تدخّلاً في إخراج أو إيصال العمل المجرّم غير المشروع. 

يبدو أنّ من أهمّ أو أكثر الحالات التي تحدث خلال البرامج التلفزيونية وأكثرها شيوعاً وخاصّةً في البرامج الحوارية حالات التهجّم أو الإساءة اللفظية التي قد يقع فيها المشاركون على اختلاف أدوارهم في البرنامج، المقدّمون والضيوف والمتدخّلون، بل إنّ رأياً يقول إنّ المسؤولية هنا تشمل جميع من كانوا سبباً في مجرّد بثّ البرنامج، فالجميع عالق بشكل أو بآخر في ما يقدّم أخيراً بمعرفة مباشرة منهم لمحتواه أو لمجرّد قبولهم بالعمل، لأنّ من شروط قبول القيام بعمل أو الاشتراك به إدراك صورته وماهيته. 

وبخصوص مقدّمي البرامج التلفزيونية، فإنّه من اللازم وفي كلّ الأحوال لتناول المسؤولية الجزائية عن أعمالهم أن يكونوا عارفين بأسس التقديم التلفزيوني والأدوار والمهامّ التي يقومون بها وطرقها وحدودها، فللتقديم التلفزيوني أصول فنّية ومهنية من جهة، ومن جهة أخرى قواعد قانونية ومبادئ أخلاقية، وبمقارنة البرامج التلفزيونية مع غيرها من وسائل أو أدوات الاتصال والتواصل، سنجد أنّ أيّ عمل تلفزيوني لن يرى النور سوى بتضافر جهود جميع العاملين فيه من معدّين ومحرّرين وفنّيين ولوجستيين ومخرجين، كما وإنّ "التلفزيون" أصبح بالإمكانات الحديثة في الصوت والصورة وتقنيات التفاعل مع الآخرين وانتشاره وإتاحته في كلّ مكان مع دوام واستمرار البثّ وسهولة الوصول والمتابعة، الوسيلة الإعلامية الأكثر استخداماً على الإطلاق، ولا نتحدّث هنا عن "جهاز التلفزيون"، بل عن القنوات التلفزيونية التي قد تُعرض للمشاهدين بوسائل مختلفة يعرفها القرّاء وأجهزة التلفزيون هي واحدة منها، وهي الوسيلة الكلاسيكية الوحيدة التي كانت مستخدمةً قبل أن يتمّ استخدام غيرها.

عموماً ينبغي أن يتحلّى مقدّمو البرامج بمواصفات وميزات خاصّة من أهمّها الحضور والنشاط وسرعة التفاعل، وأن يكونوا ملمّين بأفكار وموضوعات برامجهم، عارفين بأصول وقواعد المهنة، إضافةً إلى قدراتهم التعليمية والثقافية، كما ومن ناحية المظهر الحسن واللغة السليمة والأداء والصوت الجيّدين، لكنّ أخصّ ما ينبغي أن يتمتّع به مقدّمو البرامج من خصال: التواضع والثقة والصبر!، وأمّا عن المهارات اللازمة لممارسة وظيفة التقديم التلفزيوني فأهمّها القدرة على اتّخاذ القرارات الصحيحة في الأوقات المناسبة، وتحمّل المسؤولية والقدرة على التفكير الخلّاق والمنظّم، وامتلاك أدوات الإقناع أو التأثير في القضايا المطروحة من خلال الخبرة والكفاءة أو من خلال البراهين والأدلّة التي تؤكّد صحّة أو أهمّية أو تأثير هذه القضايا. 

هذا بالنسبة للمزايا والخصال المهنية والشخصية، أمّا بالنسبة لمسألة الواجبات وهي المسألة التي تتفرّع عن أيّ عمل يقوم به الإنسان ضمن شروطه وضوابطه، فعلى مقدّمي البرامج الالتزام بأخلاقيات وسلوكيات مهنتهم تلك، خاصّةً وأنّها مهنة علنية مباشرة التأثير، يرى منتَجَها جميع من يريدون المشاهدة، ومن أبواب الالتزام الأخرى الالتزام بسياسات القنوات التي يعملون فيها بالمسؤولية تجاهها وهذا بديهي، ومن البديهي أيضاً الالتزام بأعراف المجتمع واحترام معتقدات الناس ومقدّساتهم، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أمر أساسي وهو أنّ جزءاً كبيراً من المسؤولية يقع على القناة التلفزيونية باعتبارها المؤسّسة التي تتبنّى المحتوى المعروض للمشاهدة، لكنّ مقدّمي البرامج والمعدّين والعاملين إضافةً للضيوف أو المتحدّثين والمتدخّلين يتحمّلون المسؤولية المباشرة، لأنّهم وإن كانوا مطالبين بالالتزام بسياسات المؤسّسات الإعلامية التلفزيونية التي يعملون بها، لكنّهم ملزمون دائماً بتطبيق القانون واحترام المجتمع.

تؤكّد اتّفاقيات الترخيص التي تعقدها القنوات التلفزيونية أو غيرها من وسائل الإعلام مع الهيئات والمؤسّسات المسؤولة أو صاحبة السلطة في الترخيص وعلى مستوى العالم كلّه، أنّه ثمّة اعتبارات ومعايير أساسية يجب اتّباعها عند إعداد وتقديم البرامج التلفزيونية، كاحترام الكرامة الإنسانية والخصوصية وحرّية التعبير وعدم بثّ ما يخلّ بالنظام العام أو الحياء أو يحضّ على العنف والإرهاب والفتنة أو النعرات الطائفية والعرقية أو ما يلحق الضرر بالاقتصاد أو الأمن القومي أو بالعلاقات الدولية، وكذلك عدم بثّ موادّ مضلّلة وخادعة وتجنّب التهديد أو التشهير أو الاستغلال والابتزاز، وبالطبع.. فإنّ أهمّ ما يميّز البرامج التلفزيونية على صعيد القدرة على تقديم "الإثبات القانوني" اللازم على مخالفة هذه الاعتبارات والمعايير هو أنّ هذا الإثبات مثبت علناً وعليه من عديد الشهود ما لا طاقة للمحاكم باستقباله!.

في حين يمكن استنتاج توافر الركن المعنوي للجريمة لدى مقدّم البرنامج من خلال اتّجاه إرادته لتحقيق النتيجة التي توخّاها، لكنّ الركن المادّي لهذه الجريمة لن يتحقّق سوى بصدور الأقوال أو الأفعال التي تؤدّي إلى نتيجتها، فلا يفي ولا يكفي الاستنتاج أو الافتراض والتخمين، ولا بدّ من ظهور نشاط شخصي ملفت قد يكون بالكلام الواضح أو حتّى بالإشارة المفهومة، فتقع النتيجة الجرمية بمجرّد استخدام مقدّم البرامج أو غيره من المشاركين في برنامجه عبارات مؤذية فيها تعدٍّ أو تهديد أو تشهير تؤثّر على الآخرين وتسيء إليهم، وقد لا يكون هؤلاء الآخرون هم فقط الأشخاص المشاركون أو المتدخّلون في البرنامج، إنّما المجتمع برمّته أو مجموعة عرقية أو طائفية معيّنة أو غير ذلك، وفي كلّ الأحوال فإنّ الإرادة (وهي الركن المعنوي للجريمة) تثبت من خلال اتّجاه تصرّفات الجاني لإحداث النتيجة الجرمية مهما كانت، تحقيراً، ذمّاً، تشهيراً، افتراءً، تضليلاً، تزويراً، أو حتّى الاعتداء والضرب والإيذاء.

إنّ مقدّمي البرامج هم الواجهات الأساسية الحاضرة في البرامج التلفزيونية التي يقدّمونها، وهم من يأخذون القدر الأكبر من الشهرة والانتشار، ومسؤولياتهم الأساسية الالتزام بالموضوعية والأمانة والدقّة تجاه الناس، والالتزام بسياسات قنواتهم وأهدافها على ألّا تتعارض مع القانون والقيم ومنظومة الأعراف والأخلاق، وأهمّ المزايا كما سلف: الثقة والتواضع والصبر، إضافةً إلى المهارة المهنية والمناقب الأخلاقية والذكاء. 

فتحيةً خاصّةً لأحمد الريحاوي الذي امتلك هذه المزايا جميعاً وامتلك قبل ذلك روح الثورة والكرامة، وتحيةً لكلّ مقدّمي البرامج ومعدّيها في "أورينت" وغيرها من منابر الإعلام المرئي ما تبنّت معايير الموضوعية والاحترام، ولقد أصبحت قليلةً للغاية إن لم تنقرض بالفعل!.  

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات