من 12آذار 2004 إلى الحراك السوري 2011 مازال الكرد والعرب متباعدين

من 12آذار 2004 إلى الحراك السوري 2011 مازال الكرد والعرب متباعدين

تمضي 19 عاماً على أول انتفاضة وحِراك شعبي سوري في الألفية الجديدة حين انطلقت من القامشلي وعمت كل مناطق الكرد في سوريا، كما يدخل الحدث السوري عامه الثاني عشر، وتمازج دماء السوريين بحثاً عن الحرية والكرامة، والمؤسف أن تستمر معها مُسببات التباعد الشعبي بين المكونات السورية، واستمرار شعور الكرد أن لا أحدَّ وقف معهم في مصابهم وحِراكهم في تلك الأيام، والأصح أن السوريين اليوم مطالبون بضرورة طيّ جميع الصفحات للخروج بمخرجات جديدة، تحمل سوريا إلى السّلم الأهلي والعيش المشترك الحقيقي القائم على حقوق المكونات والالتزام بقضاياهم الدستورية المختلفة، فمن آذار عام2004 إلى آذار2011، شكلَّ الحدثين إثباتاً أن للسورين أنفة وعزة وكبرياء.

وصحيح أن شبكة العلاقات بين المجتمع الكردي ونظيره العربي في سوريا، تنطبق عليها جميع أشكال العلاقات التقليدية المحكمة لطبيعة العلاقات بين المكونات في أيّ مجتمع آخر، من مصاهرة وعلاقات تجارية وحسن الجوار وتبادل الزيارات و...إلخ. لكن المُشكلة أن تلك الشبكة من العلاقات على صعيد تعاطي المجتمعات والشعوب مع قضاياهم المشتركة، غائبة.  كالإحجام الشعبي العربي عن المشاركة بمختلف المناسبات الكُردية، فبعد مضي/19/ عاماً، نادراً ما وجد الكرد مشاركة المكون العربي في أحياء ذكرى انتفاضة 12 آذار، ولو بإشعال شمعة واحدة حداداً على أرواح من استشهدوا وفقدوا حياتهم، خاصة لمن يعيشون بعيداً عن سيطرة القوات الحكومية السورية، وهو ما يدفعنا للتأكيد على ضرورة توافر الخصائص النوعية في مستقبل العلاقات الكردية العربية في سوريا؛ تماهياً مع الظروف والمناخات التي يجب أن توجد في سوريا مستقبلاً وحالياً كممهد لها. بالمقابل رُبما تكون واحدة من المشاكل المعقدة في تركيبة العلاقات الاجتماعية-السياسية، هي توجّس المكون العربي من رغبة الكرد في الحصول على نوع من الاهتمام والتضامن الإقليمي والدولي بالقضية الكردية في سوريا، وهو ما يخلق ردات فعل ومخاوف غير مبررة، ويُشكّل ذلك الشعور نموذجاً هشّاً لعلاقات واضحة المعالم بين الجماعات البشرية التي تعيش في سوريا. 

فمن نتائج وتداعيات استمرار الأزمة السورية، والمعارك بين مختلف الأطراف، أن عمقت من الخوف الكردي، فمثلاً وجد أهالي عفرين -رأس العين-تل أبيض، أنفسهم خارج منازلهم واستمرار ارتكاب الفظائع الكبيرة بحقهم، دون أن يتلقّى الكرد أيّ تعاطف أو دعم لإحقاق الحق، وبالطرف الآخر، فإن الكُرد أيضاً مُقصرون إلى حدٍ ما في هذا الاتجاه مما يحصل في درعا أو غرب الفرات على سبيل المثال، وينحصر التعاطف والمؤازرة لدى كل طرف لملته وجماعته فحسب، منطلقين من نازع وتضامن قومي، الكردي مع الكردي، والعربي مع العربي، وكل طرفٍ يشعر بتعرضهم للمأساة التي لا يتعرض لها غيرهم، لكن من يظلم الكرد والعرب في المناطق المعروفة بــ" درع الفرات-غصن الزيتون، نبع السلام" هم جماعات يُعرّفون أنفسهم بــ"الثوار"، علماً أن الموقف من الحريات والديمقراطية واحد لا يتجزأ، ومن ادعى الخروج لنصرة المظلوم، لا يظلم إلا من كان يحمل نزعة الحقد والكراهية.

 وبالمحصلة فإن السوريين أمام معضلة مجتمعية عميقة متمثلة بانفراط عقد الأخوة والشراكة المجتمعية، وصحيح أن الكرد والعرب في سوريا خرجوا في تظاهرة يوم/ جمعة الانتفاضة الكردية، واحتضنت المنطقة الكردية آلاف الأسر والعوائل الهاربة من أتون الحرب، ولم يُذكر أن تعرّض أحد النازحين لعمليات التنمر، التمييز، المحاربة في لقمة العيش، الاعتراض على تشابه مهنهم مع مهن المجتمع المحلي، واُستقبلت الأسر السورية في البيوت..إلخ وأعتبر ذلك جزءاً من واجب "شراكة السوريين والأخوة الكردية والعربية"؛ حيث اختبر الكُرد المظلومية المشابهة، خاصة عمليات النزوح واللجوء إلى كردستان العراق بسبب الملاحقات الأمنية للمشاركين في التظاهرة الشعبية العارمة في 12 آذار2004، وشكّل ذلك الشعور البُنية المركزية الصُلبة التي وجهت المشاعر العاطفية والسلوكيات النفسية للكرد تجاه العرب النازحين من مختلف المناطق والمحافظات السورية. كُل ذلك صحيح، لكنّ نمط العلاقات السليمة والمؤدية لمجتمع ودولة قوية مازال غائباً، ويزداد الشرخ الاجتماعي تعميقاً، وإن كانت الألسن في المجالس المختلطة تؤكد على العلاقات التاريخية بين الشعبين، لكن لا تطبيقات ولا مؤشرات ولا ممارسات لاستمرار تلك العلاقات، وفقاً لما تتطلبه تلك العلاقات من سلوكيات لديمومتها. 

أن النمط المُشكّل لطبيعة العلاقة حالياً يُمكن أن نُسميه "القطيعة غير المُعلنة"، والاندماج الاجتماعي بين الشعبين وصل للحدّ الأدنى، متجاوزاً فضاء العلاقات الاجتماعية، ليشمل القطاعات السياسية والثقافية والاقتصادية أيضاً، فلم يشهد أن بادر كاتب أو مثقف عربي للتأكيد على ضرورة اللغة والتاريخ والتراث الكردي في المناهج المقبلة، أو إسقاط الضوء عليها ببوست فيسبوكي أو محاضرة أو ..إلخ على سبيل المثال، ومع إتقان وبراعة مئات الأقلام الكردية باللغة العربية، أدباً، وسياسةً، وشعراً، لم يصدف أن تعلّم مثقف عربي اللغة الكردية، أو دافع عن مظلوميتهم إلا البعض القليل، ويكفي زيارة أحد المقاهي والمطاعم ليُظهر حجم التقوقع والتفاعل اليومي، بل حتّى الجلسات والسهرات أصبحت بلون واحد في غالب الأحيان، وانحصر التواصل في لزومية التعامل عبر المؤسسات الخدمية سواء للإدارة الذاتية أو الحكومة السورية، هي النافذة الأكثر تفاعلاً بين الكرد والعرب في سوريا، مع الإبقاء على أغلب أشكال التوتر والخلافات التقليدية بينهم، وهو ما يقود لمخاوف الفصام العميق بينهم، وتحول العلاقات الاجتماعية السليمة القائمة على التنوع والتعدد، إلى حلقة شبه مُغلقة تخص كل جماعة على حدة.  

كل طرف يستشعر نقاط القوة التي يتفوق فيها على غيره، حيث ينظر الكرد لأنفسهم أنهم أكثر تحضراً وتمدناً من العرب في محافظة الحسكة، ويفوقونهم في قضايا الحريات والديمقراطية والليبرالية، والبحث العلمي، في حين أن العرب ينطلقون من قناعة ثابتة بأحقيتهم في إدارة المؤسسات والدولة واللغة والمجتمع، وأن أيَّ طرح كُردي إنما ينتهي به المطاف إلى الانفصال وتجزئة سورية، كما يستمر اعتقاد المكون العربي بامتلاكه اليوم وغداً مؤشرات القوة وأحقية اكتناز مظاهر الهيمنة والسلطة في علاقتهم بالكرد، بل استمرارهم بفكرة الاستملاك القانوني للمنطقة، بما فيها الشرائح والقوى العربية المنخرطة في الإدارة الذاتية، واستمرار شعورهم بعقدة التفوق وتشكيلهم جوهر عمل الإدارة والسلطة، رافضين أيّ مسًّ بمصطلح "العربية" من اسم الجمهورية، معتمدين على مُحاججات أخوّة الشعوب وضرورة عدم الطرح القومي للكرد ضمن الإدارة الذاتية، وهو فعل الاستقواء بسلطة القانون، ضمن المساحات التي يقطنها العرب المؤيدون للإدارة الذاتية، في حين يجد الكرد أن التاريخ يجب أن لا يعيد نفسه، وأنهم ذوو حق شرعي في شراكة البلاد، وأن المركزية مرض عضال سينتهي بهم المطاف، كما بدؤوه. ويستقوي "العرب" الموالون للحكومة السورية في قراهم ببيئتهم الاجتماعية والسلطة المُساندة لهم، أما شرائح الكُرد المنتشرين خارج دائرة الإدارة الذاتية لا يملكون سوى أوراق المواجهات الشفهية والبحثية والإعلامية تجاه الآخر الرافض أو المعترض على طروحاتهم.

المشكلة الأخرى أن الظروف والعلاقات الاقتصادية والسياسية تتكاتف لتعميق المشاكل والتباغض وتمتين ذلك النوع من العلاقات غير السليمة، كاستفادة التجار والرساميل الكرد/العرب من علاقات تزاوج المال مع السلطة، ما أدى إلى تفاوت طبقي رهيب، وتالياً خلق صراعاً طبقياً واضحاً بين الكرد والكرد، والكرد والعرب، والعرب والعرب. لذا لا فكاك من القول إن شعور اكتناز القوة والحق والهيمنة موجود لدى الجميع؛ وسببه الأساسي غياب أي عقد اجتماعي متفق عليه، وفقدان للمشروع الوطني الجامع الذي يحمي كل المكونات ويمنحهم اعترافهم الدستوري وحقوقهم. 

لكن أكثر أشكال التوترات العلاقاتية تتجلى حول مصير ومستقبل سوريا والمكونات، خاصة أمام سيولة الخطابات القومية لدى الطرفين، وبالرغم من استمرار الكرد السوريين من حمل شعور الرغبة بالعيش في المجتمع السوري كمكان وكيان جغرافي وحيز نفسي للاستقرار السياسي، لكن إصرار الآخر على المركزية وعروبة الدولة واللغة العربية كلغة رسمية وحيدة، هي أكثر ما يعمّق ذلك الشرخ، ليكون الانكفاء والابتعاد عن بعضهم البعض أفضل الحلول المتاحة للكل هرباً من سوداوية الوضع المعاش، والإضاءة الوحيدة الموجودة إن المكونات لم تتقاتل ولم يحصل أي نزاع شعبي بينهم ولا سلوكيات تدفع بذلك الاتجاه.

لذا في الذكرى التاسعة عشرة من انتفاضة الكُرد في سوريا، والثانية عشرة من بدء التظاهرات والحِراك الشعبي السوري، هي دعوة للمشاركة العربية في بلسمة جراح الكُرد وكيها من العمق، سواء عبر الكتابة أو البحث أو المشاركة ولو بإشعال شمعة واحدة، ودعوة للمزيد من الانفتاح الكردي العربي على بعضهم البعض.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات