تسليع الثقافة وضبطها ضمن قواعد السوق

تسليع الثقافة وضبطها ضمن قواعد السوق

"هناك أشياء صارت متاحة للبيع ولم تكن في السابق للبيع".. قد تُعتبر هذه المقولة التي أدرجها الكاتب والباحث الأمريكي "روجر روزنبلات" في مقدمة كتابه "ثقافة الاستهلاك" جملة عادية وخصوصاً في ظل انتشار وباء الاستهلاك بشكل جنوني، وتوغله في جميع مناحي الحياة، لكن من غير العادي بالنسبة لنا كقراء في الدرجة الأولى ومشاريع كتّاب -إن لم نقل كتّاباً- في الدرجة الثانية، هو وصول وباء الاستهلاك إلى الساحة الأدبية والفكرية، ومسها بلوثة التسليع التي لا تتماشى مطلقاً مع ما تنتجه هذه الساحة. وهنا نقصد المادة المنشورة بصرف النظر عن نوعها. وإن بحثنا في تاريخ تسليع هذا المنتج أو أسباب انحرافه سنجدها ليست ببعيدة جداً عن يومنا هذا، كما إنها ليست رمياً بالجزاف. 

تحوّل النشر إلى تجارة:

بنظرة تفقدية سريعة إلى أي معرض كتاب عربي أو أجنبي، سنرى انتشار عناوين جذابة لكتّاب لا يتجاوزون تعداد أصابع اليد، كما سنلحظ كثيراً من العناوين والأسماء التي تمتاز بجودة المضمون، إلا أن التهافت الكبير يكون من نصيب أصحاب العناوين الجذابة تلك، فنرى فئات الشباب في الغالب تهرول لتحصر قراءاتها في تلك البوتقة الضحلة. وفي المقابل، دفع هذا التهافت معظم الناشرين إلى المضي خلف أسماء محددة للتعاقد معها بغرض الفائدة وبصرف النظر عن القيمة الإبداعية أو الفكرية التي يتضمنها نتاجهم، ومن المؤكد أن أصحاب ذاك السائد، يحصلون على مقابل جيد لقاء أعمالهم، في حين يدفع من يقدم مضموناً متميزاً ونوعياً لقاء نتاجهم. وهذا ما يؤكده الكاتب والناشر الفرنسي آندريه شيفرين في مقاله "عندما نقرأ الكتب بنهم" حيث يقول: "إن خياراً واسعاً من الأعمال الجادة التي كانت متاحة بشكل كبير، وتُقرأ على نطاق واسع في القرن التاسع عشر، أصبح هناك الآن صعوبة في العثور عليها". ويُرجع السبب بحسب قوله إلى: "في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، لم يفصل المحررون في أضخم دور النشر بين قراء جمهور النخبة والجماهير العامة التي يجب إرضاؤها، فقد كان قلقهم الأساسي هو تقديم أعمال جديدة وبارعة لأكبر جمهور ممكن. كما كان استيلاء مديري شركات نيو هاوس على دار اندم هاوس للنشر، أول إشارة إلى أن القيم الثقافية والفكرية يتم استبدالها بقيم السوق". 

ربما لم تكن هذه الإشارة الأولى لتسليع المنتج الثقافي، إلا أنها الأوضح تاريخياً؛ والتي دفعت إلى السطح سؤالاً أصبح في أوج نضجه: هل هذا الكتاب ذو قيمة فكرية إبداعية أم تجاري وسيجلب الأرباح؟.

والإجابة على هذا السؤال هي نظرة خاطفة إلى الواقع. ففي بعض بلدان عالمنا العربي على سبيل المثال، يتم تداول الكتاب بين الحدود على أنه سلعة، ويخضع للقوانين الناظمة للتجارة، عدا عن كونه ممنوعاً من التداول في بعض البلدان أيضاً.

كتابة تحت الطلب:

يقول الشاعر والروائي الإسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون: "ليست الصعوبة أن تؤثر في قارئك فحسب، بل أن تؤثر فيه بالطريقة التي ترغبها تماماً". تكمن الصحة في هذه المقولة، عندما يقف التفاعل بين الكاتب وقارئه حد امتثال الكاتب لرغباته وكتابتها فقط، بينما في الواقع الحالي، يشطح الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك، فنجاح الكاتب في عمل معين يخضع لامتثاله لرغبات السوق المكون من الناشر والقارئ. كما بات التفاعل المباشر بين الكاتب والقارئ، والذي أنشأته وسائل التواصل، فخاً يسحل الكاتب إلى رغبة القارئ والمزاج العام للجمهور، ومن هنا لم يعد الكاتب هو المتحكم في عملية الكتابة، بل السوق الذي يرفع من أهمية الكاتب وعمله بحسب نسب مبيعاته.

الكتابة على مقاييس محددة:

لا يخفى على مطّلع أن لكل منصة تختص بالنشر سياساتها المحددة، والتي ترسمها وفقاً لمعايير كثيرة لسنا بصدد الخوض فيها، وهي في بعض الأحيان معايير محقة إن كانت تحاول التماشي مع المجتمع الذي تنطلق منه، إلا أننا اليوم نلحظ نزوحاً غير طبيعي تجاه الاستهلاكية أو إلى تأطير المرحلة الفكرية والأدبية ضمن قوالب محددة، فعلى سبيل المثال: انتشار معايير واحدة حد التشابه للمسابقات الأدبية في الآونة الأخيرة، وهذا ما جعل البعض يمتهنون الكتابة للمسابقات فقط، وأيضاً هذا الأمر جعل النتاج الصادر عن هذه المسابقات متشابهاً لدرجة كبيرة، ولحد جعله سمة المرحلة الأدبية الحالية. وبعيداً عن المسابقات ينطبق الأمر على المواد الإبداعية والفكرية الأخرى. 

أما في الطرف الآخر، وعدا عن مزاجية الجمهور والكتابة بمقاييس المنصات، يبحث القارئ أيضاً عن المتعة، والإيجاز والمعلومة السريعة، فيضع كلاً من الناشر والكاتب في خانة رغبته، وهذا ما يُعتبر تأثير السوق. 

الثقافة الاستهلاكية واستهلاك الثقافة:

يعد مفهوم الاستهلاك من المفاهيم المعقدة، كونه عملية جماعية لها جوانبها الاجتماعية المهمة، فإن أغلب ما يستهلكه الفرد هو نتيجة تلقائية لما يستهلكه أقرانه، وكثيراً ما ينزع الفرد إلى تقليد الآخرين، لأنه لا يعرف ما يستهلك. ومن هنا يفتح السوق طريقه نحو المستهلك، أي من المبهم. كما هناك جوانب أخرى لترشيد الاستهلاك وتوجيهه نحو مسارات معينة يقوم بخلقها البائع ومثله المشتري، وهذا ما يسمى بثقافة الاستهلاك. وفيها لا يميز السوق أو البائع بين السلعة رديئة المضمون، وبين السلعة ذات الجودة، وهذا ما انطبق على الكتابة أيضاً، والتي صرنا بأمس الحاجة إلى تعويم ما هو مستحق منها بعيداً عن المنفعة المادية، والرفع من استهلاك الثقافة الحقيقية.

  مما سبق يتضح لنا انصهار أضلاع مثلث الثقافة "الكاتب، الناشر والقارئ" ومعهم الثقافة والفكر، ضمن قواعد ومتطلبات السوق، هي من توجههم وتوجه إليهم ثقافتها.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات