الصراع بين دببة الكرملين

الصراع بين دببة الكرملين

في بداية الحرب الروسية الظالمة ضد أوكرانيا، التي تم الترويج لها إعلامياً بأنها "عملية خاصة" تهدف "القضاء على النازية ونزع أسلحتها"، توقع زعيم الكرملين وحاشيته أن يدب الخلاف بين الممثلين الرسميين للحكومة الأوكرانية، بحيث يهرع القسم الأكبر منهم نحوه ليوقعون صكوك الاستسلام والتبعية والانسحاب من خريطة المنطقة بعد إلحاق البلاد بوصاية روسيا القيصرية الجديدة إلى أجل غير مسمى. 

تُظهر العديد من الأمثلة أن التجريد من السلاح هو سيناريو عسكري سياسي ناجح للغاية، حيث وقع اختباره عدة مرات. لذلك، قام الروس والمتعاونون معهم بالحديث عن كييف التي تستعد معنوياً لتنفيذ "السيناريو الكوري" بعد نهاية عمليتهم الخاصة في أوكرانيا. أي إنها تجهز نفسها لتقسيم البلاد إلى شرق وغرب، بحيث لا يفسر هذا التقسيم الفعلي من خلال الديموغرافية والدين واللغة فحسب، وإنما أيضاً من خلال الدوافع الاقتصادية. وهنا قد تكون الفرصة سانحة لـ "غرب أوكرانيا" لتكرار المعجزة الاقتصادية التي حققتها كوريا الجنوبية؛ أو قد تصبح ملحقاً للمواد الخام ومصدراً للعمالة الرخيصة في بولندا وغيرها من الدول الأوروبية بسبب فساد النظام وافتقاره الوصول إلى المنافذ البحرية. في الوقت نفسه، ستنضم المناطق الشرقية والجنوبية الأكثر ثراء بالثروات إلى روسيا، حيث تتركز المعادن ومناجم الفحم والملح والإمكانات الصناعية الضخمة. 

انتهت الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على شبه الجزيرة الكورية بهدنة عام 1953، والتي بموجبها قُسم البلد إلى نصفين. صحيح أن توقيع اتفاقية السلام استمر لما يقرب من نصف قرن ولم تتم الموافقة عليها إلا في عام 1991. ومع ذلك، كانت الحرب الكورية أكثر دموية من الصراع الأوكراني الحالي، فقد قتل حوالي مليون جندي وثلاثة ملايين مدني وفقاً للأرقام الرسمية. 

يبلغ طول الخط الفاصل بين الكوريتين - الشمالية والجنوبية - 250 كيلومتراً فقط؛ بينما قد يصل الخط في أوكرانيا إلى أضعاف مضاعفة.  

لقد تم تنفيذ "السيناريو الكوري" بعد عام 1953 في العديد من البلدان الأخرى: إنشاء منطقة محايدة عازلة بين شطري قبرص عام 1964؛ بناء جدران للفصل بين السكان الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشمالية عام 1969؛ إقامة شريط حدودي بين العراق والمملكة العربية السعودية عام 1981؛ تأسيس سلطات كولومبيا منطقة منزوعة السلاح لتفصل قواتها عن المتمردين الماركسيين عام 1999؛ وضع خط فاصل بين إسرائيل ولبنان سمي بـ "الخط الأزرق" عام 2001؛ بناء إسرائيل لجدار فاصل عنصري على الحدود مع فلسطين بطول أكثر من 700 كيلومتر عام 2003...

لكن هذا السيناريو ليس صحيحاً تماماً؛ لأن ما جرى ويجري في أوكرانيا هو أقرب إلى "السيناريو السوري". فقد أصبح لدى الروس بالفعل خبرة واسعة في اقتطاع المناطق ووضعها تحت وصايتهم كما حدث في جورجيا، أو إنشاء مناطق عازلة (منزوعة السلاح) كما فعلوا في سوريا بمساعدة إيران وتركيا الدولتين الضامنتين للأمور الأمنية والعسكرية هناك؛ حيث تم بوساطتهم جميعاً وضع كل من قوات الأسد وفصائل الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام في حدود معينة.

قد يسمح الكرملين ببعض الإجراءات الشكلية مثل تشكيل حكومات دمية تقوم بإبرام بعض الاتفاقات، ورسم بعض علامات الدولة كالبرلمان وغيره من المؤسسات الصورية، وإصدار هويات وجوزات سفر محلية... 
لكن ما حدث هو العكس؛ فقد نشأ الصراع بين أقطاب الكرملين على خلفية الفشل الذريع لقواته، إذ لم تستطع الاستيلاء على مدينة أوكرانية كبيرة واحدة حتى الآن، ومن ثم تصاعد بشكل حاد مع استعادة الأوكرانيين المزيد والمزيد من المناطق المحتلة. 

يمثل هذا الصراع طرفان تقريباً: 
الأول، عسكري ومدني رسمي تمثله وزارة الدفاع وهيئة الأركان ووزارة الخارجية. 
والثاني، عسكري رسمي ومدني رسمي وغير رسمي يمثله صاحب الشركة العسكرية الخاصة "فاغنر" يفغيني بريغوجين أو ما عرف بـ "طباخ بوتين" ورئيس الشيشان رمضان قاديروف وقائد عمليات القوات الروسية السابق في أوكرانيا الجنرال سيرغي سوروفكين.

رغم خطورة هذا الوضع الناشئ، إلا أنه سهل على الرئيس الروسي بعض الأمور، وأعطاه هامشاً للمناورة والتهرب من المسؤولية وقت الضرورة. فهو قد أشاد بالنجاحات الأخيرة للطرف الثاني في ساحات الحرب، لاسيما بعد السيطرة على مدينة سوليدار من قبل مرتزقة "فاغنر"؛ وأصدر قرار عفو عن المدانين منهم، وقلد أحد الفاغنريين ميدالية لتميزه في ساحة المعركة رغم ارتكابه سطو مسلحاً سابقاً. إلا أنه فقد مصداقيته بعد محاولاته الفاشلة بالاستيلاء على مدينة باخموت رغم حشد أعداد كبيرة من المقاتلين والحملات الجوية الوحشية التي استهدفت البنية التحتية للمدن الأوكرانية. 

انتقد وزير الدفاع السابق لـ "جمهورية دونيتسك الديمقراطية" إيغور جيركين بانتظام القيادة العسكرية الروسية وجماعة بريغوجين بسبب الهجمات الفاشلة على القطاعات الأوكرانية في الجبهة. كما أطلق على مرتزقة بريغوجين لقب "مشاة الهجوم الممتازة"، لكنه شدد على أنهم "كانوا دون المستوى المطلوب في الجبهات الأمامية".

وبنفس الوقت وقع اختياره النهائي على الطرف الأول من خلال تعيين الجنرال فاليري غيراسيموف رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية ونائب وزير الدفاع الأول سيرغي شويغو - صديق بوتين الوفي والمخلص والتابع - قائداً للعمليات العسكرية في أوكرانيا؛ مسترشداً بما فعله يوسف ستالين أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما عيّن الجنرال غيورغي جوكوف رئيساً لهيئة الأركان العامة للجيش الأحمر في عام 1941؛ ومن ثم أحاله إلى التقاعد حالما تحقق ذلك النصر المزعوم على قوات هتلر النازية خوفاً من تنامي شعبيته ونفوذه وقوته...  

حاول بوتين، بهذا القرار، استعادة هيبة وسمعة وزارة الدفاع الروسية المتضررة بشدة بسبب الإخفاقات، وتعرضها لانتقادات واسعة خلال الفترة الماضية. وإعطاء الفرصة مرة أخرى لإعادة بناء جيشها، لا سيما أن وزير الدفاع يخطط لزيادة عديد الجيش الروسي 1,5 شخص في الوقت القريب!

قال اللواء المتقاعد ألكسندر روتسكوي والنائب السابق للرئيس روسيا إن الحرب التي شنت ضد أوكرانيا مأساة لبلدنا.. يموت الناس بلا معنى؛ إذ لم يبق في الجيش فوج واحد لم يسقط فيه قتلى وجرحى.. كذلك انتقد وزارة الدفاع الروسية، بما في ذلك سيرغي شويغو، وشدد على أن القوات المسلحة الروسية يقودها أشخاص لم يخدموا في الجيش مطلقاً ولم يتلقوا تعليماً عسكرياً كلاسيكياً: "قاد القوات المسلحة أشخاص غير أكفاء بشكل عام على مدى ربع قرن. ماذا يمكن أن يحدث لها؟ هذا هو بيت القصيد!.. لم يخدم وزير الدفاع في الجيش وليس لديه تعليم عسكري؛ كذلك خمسة من نوابه لم يخدموا على الإطلاق. أي نوع من وزارة الدفاع هذه؟".

هذا التعيين لا يعني أن المواجهة بين دببة الكرملين قد توقفت تماماً؛ لكن، ربما تأجلت قليلاً بعدما أنهت إحدى جولاتها لصالح الجهات العسكرية الرسمية. فزعيم "جماعة فاغنر" بريغوجين ليس بالرجل السهل أو البسيط أو الساذج، وإنما هو رجل خطير و"ثعلب ماكر إلى حد ما ولديه خبرة هائلة في النجاة من تلك المعارك التي تجري خلف الكواليس" - كما يقول الخبير العسكري الأوكراني بيتر تشيرنيك!

يملك بريغوجين الرجال والمال والنفوذ ليس في بلده فحسب، وإنما في الكثير من البلدان الأخرى... هناك في روسيا الآن ما يقارب نصف مليون سجين لأسباب مختلفة بعضهم خطير ويقضي عقوبات طويلة، والسبيل الوحيد لإخراجهم من هناك هو تجنيدهم كمرتزقة لدى "جماعة فاغنر" وإرسالهم للقتال على الجبهات الأوكرانية ليموتوا أغلب الظن. إضافة إلى إمكانية تجنيد آخرين في دول الاتحاد السوفيتي السابق والبلقان والشرق الأوسط... 

قاد هجوم وحدات فاغنر على سوليدار التي تصدرت عناوين الأخبار في الفترة الأخيرة، ضابط القوات الخاصة أنطون إليزاروف (الذي يعرف باسم لوتس أيضاً) والمدان بتهم النصب والاحتيال والمحكوم بالسجن ثلاث سنوات وغرامة باهظة والموضوع تحت الرقابة؛ ولم يتم الكشف عن شخصيته سوى عند الهجوم على المدينة؛ كذلك حصل على عدة أوسمة منها "نجمة بطل روسيا" وقاتل ضمن وحدات فاغنر في سورية. كما، سيتم إطلاق سراح أحد أكثر المجرمين الروس نفوذاً ووحشية زاخار كلاش (شاكرو مولودي)، الذي وافق على انتساب أفراد عصابته إلى مرتزقة فاغنر. في حين ظهرت تقارير تفيد بأن "الفاغنريين" بدؤوا في تجنيد النساء منتصف يناير الماضي، وأن الدفعة الأولى تتلقى تدريباتها منذ بداية هذا العام. 

كذلك تسيطر "جماعة فاغنر" على جمهورية إفريقيا الوسطى تقريباً، حيث ينخرط مقاتلوها في استخراج الذهب وتصديره بطرق غير شرعية، وتصل حجم تجارتها إلى حوالي مليار دولار سنوياً!.. إضافة إلى سيطرة الجماعة على عدة آبار نفطية ومكامن للغاز في سورية التي تمكنوا من استرجاعها من سيطرة "داعش" مقابل حصلوهم على 20% من عائداتها حسب الاتفاقات التي عقدوها مع آل الأسد!
ورغم اعتراف الحكومة الأمريكية رسمياً بأن "مجموعة فاغنر" التابعة لبريغوجين "منظمة إجرامية دولية وفرضت عقوبات عليها وعلى الأفراد والشركات ذات الصلة"، ما يعقد بشكل كبير أنشطتها خارج روسيا والأراضي المحتلة في أوكرانيا الخاضعة لسيطرتها. إلا أن هذا الأخير طالب بتفسير من الولايات المتحدة بأنه نفسه لا يفهم سبب اعتبار المجموعة التي أنشأها منظمة إجرامية!

إن الجنرال جوكوف الذي تم سكه حديثاً في شخص غيراسيموف يركز الموارد ويزيد الاحتياطيات ويستعيد القدرة القتالية، باحثاً عن المناطق الأكثر ضعفاً في الجبهة الأوكرانية ليحقق اول انتصاراته.
ربما تأجلت المواجهة، التي يصفها بعضهم بـ "المواجهة بين أبراج الكرملين" أو "المواجهة بين عناكب بوتين"، إلى وقت آخر ليس ببعيد، لكن رقصة الموت احتدمت فيما بينهما.. من ينتصر؟ لا أحد يعرف!

كل شيء متوقف على سير المعارك على الأراضي الأوكرانية وعلى موقف جزار الكرملين وصحته. فبعد عام من الحرب، تصبح القدرة على المفاجأة والرعب باهتة، باهتة جداً.. الهزيمة في أوكرانيا تعني بداية النهاية لروسيا!

 

التعليقات (3)

    مهتم باللغة

    ·منذ سنة شهرين
    مقالك مليء بالأخطاء النحوية .. أقلّها تعلّم أساسيات النحو. طبعاً المقال جيد من الطرح والمعالج.

    مهتم بالعقل

    ·منذ سنة شهرين
    هناك مدقق لغوي لدى الموقع. وكل المقالات تمر عليه، فإذا كان هناك خلل عليه أن يصوبه.. لابد أنك تبحث عن القشور...

    اللغة ليست قشوراً

    ·منذ سنة شهرين
    كان عليّ ذكر الأخطاء وتحديدها قبل تعديلك لها وتصحيحها، لكن خذ ما فاتك تصحيحه أيها المدقق: قوله: ليوقعون صكوك الاستسلام والصحيح: ليوقعوا.. لأن الفعل منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل. قوله: رغم ارتكابه سطو مسلحاً والصحيح: رغم ارتكابه سطواً مسلحاً سطواً مفعول به للمصدر ارتكاب. تحياتي لك وللكاتب وأتمنى لكما التوفيق. ما حصل أمر جيد، فقد تم تنبيهكم من خلاله إلى أنّ من بين من يقرؤون المجلة مختصّون، ويجب الانتباه على اللغة أكثر.
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات