الهزّات في سوريا.. الهزّات التي لا تهدأ!

الهزّات في سوريا.. الهزّات التي لا تهدأ!

الزلزال لا يبارح المكان أبداً، يكاد لا يفارقه، فكلما هجعَ تجدد، وكأنه تعويذةٌ متقنة تعاودُ الانبعاث مجدداً عند مشارف الهزّات الأولى بعد أن يعتدل ضغط دمها، وتغادر سرير العناية الفائقة. هذه المرّة كانت أنطاكيا مركز الهزّة الأرضية الجديدة، بقوة 6.4 درجات على مقياس ريختر، وقد وصل صوتها الارتدادي إلى معظم الأراضي السورية، وأخرجت اللبنانيين بسياراتهم إلى الشوارع ليلاً، وسرعان ما أعلنت "الخوذ البيضاء" السورية عن إصابة 220 آخرين، وهرعت تبحث عن ناجين جدد في الشمال السوري المفقود عن خارطة الإغاثة الدولية اللائقة.

هو زلزالٌ جديد استيقظ بعد ليلة حمراءَ عاشتها عاصمة النظام على أضواء الصواريخ الإسرائيلية التي زارت أهدافها من خلال المداخن الضيقة، وثقوب الجدران التي تكاد لا تُرى بالعين المجردّة، بحثت عن إسماعيل قاآني في كفرسوسة وربما لم تجده، وسقط سهواً أحد جدران قلعة دمشق التاريخية، سقط محترقاً بعد أن نام فوقه أحد صواريخ "الممانعة" المصابة بفقر الدم، والشلل الدماغي. ذاك هو الزلزال الذي لا يهدأ!.

 

إيران لا تتسكع، إيران تحتل!

لا ترى إيران في سوريا دولةً حليفة لها، بل تعتبرها امتداداً جغرافياً لمأزقها العقائدي منذ قرر احتراف مقولة "الموت لإسرائيل"، فهي مساحةٌ خصبة وملائمة لنشر القواعد العسكرية للحرس الثوري الإيراني قريباً من حدود إسرائيل الهادئة جهة الشمال الشرقي، ولأجل هذا صارت سوريا إيرانيةَ النكهة، بمراكزَ ثقافية تبشّرُ بخروج المهدي الوشيك، وتغدقُ دورات منتظمة باللغة الفارسية على البعثيين الجدد المؤمنين بقيامة الأمتين العربية والفارسية معاً!. 

فلا عجبَ من أن تصير معظم القواعد العسكرية السورية إيرانيّةَ الهوى واللكنة، إحداها كانت محطة رادار في منطقة "تل المسيح" جنوب البلاد، وقد طالها القصف الإسرائيلي في ليلة ما قبل الزلزال الثاني، ولا عجبَ أيضاً من أن يتدحرج التاريخ مجدداً فتكون إحداثيات الموقع الذي قضى فيه عماد مغنية عام 2008 هي ذاتها الإحداثيات التي طالها القصف الأخير في محيط ذاك المكان الباذخ بالمقرات الأمنية، مع تلك التي يستخدمها الحرس الثوري الإيراني كمقار ميدانية يخصصها لإدارة شؤون الإقليم السوري. لكن إخفاق القصف الإسرائيلي هذه المرّة في اقتناص صيدٍ دسم من المرجّح أن يكون إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس الإيراني، جعل من التخمينات التي لاحقت إخفاق تلك العملية تصير شأناً أكثر أهميةً من العملية نفسها، وأبسطها أن تكون المخابرات العراقية قد أعلمت قاآني بضرورة مغادرة المكان قبل بدء العملية بساعات قليلة، بناءً على تسريبات استخباراتية أمريكية، فالولايات المتحدة تبدي ارتياحها المتواصل للوصاية الإيرانية على الجغرافيا السورية، على حساب الوصاية الروسية طبعاً، خلافاً للذي تفضّله إسرائيل، أيّ استفحال الوصاية الروسية على حساب تقليم أغصان الوصاية الإيرانية، وهو خلاف شكلاني ليس إلا من دون أنّ يمسّ عمق التفاهمات الإسرائيلية الأمريكية بسوءٍ يذكر.

 

الزلزال بهزّاتٍ مختلفة!

سوريا التي أوصلها نظامها الحاكم لأن تكون مطيّةً إقليمية تتناوب عليها الدول الكبرى، ودول المنطقة الفاعلة أثناء إصابة حساباتها السياسية بالتباين الشديد، أو أثناء تجاذبها لمصالحَ متناقضة الأثر.

وليس زلزال السادس من شباط/ فبراير، بهزاته الارتدادية العديدة، وكان آخرها هزّة أنطاكيا هو أكثر ما أوجع السوريين، إذ يحفل تاريخهم بالهزّات المتواصلة، أو يكاد يكون تاريخَ هزّاتٍ متواصلة، ابتداءً بهزّة البعث الحاكم "عل الوحدة ونصّ"، مروراً بالهزات النفسية العميقة التي استوطنت الشخصية السوريّة، وأبدعتها القبضة الأمنية أثناء اعتقالها ألسنة الناس، ومنع عقولهم عن تداول الأفكار والسياسة، ثم الهزّات المتأتية من محفل "محور الممانعة" أثناء ممانعته تسرّب الماء إلى ثيابه الداخلية، وأثناء ردوده القاسية على الهجمات الودودة الإسرائيلية في أزمنةٍ وأمكنة لا نعلمها نحن، الناسُ العاديّون جداً. ثم لدينا الهزّتان المتعاقبتان الإيرانية والروسية، وما أنجبتاه من احتلال شديد البرودة للقرار السوري في السياسة والاقتصاد على السواء، وبينهما يقع مطعم لونا الشبل بامتيازه الروسي لتقديم حساء عظام السمك، وسلطة البيض المسلوق بالبازلاء المقيتة، وتقع بينهما كذلك المدرسة الإيرانية التي لم يمسّها القصف الإسرائيلي الأخير، والتي تقدّم وصفات طازجة بمقدورها كشف ملابسات إحداثيات خروج المهدي، أو تعلّم ثقافة زواج المتعة وفنونها القتالية، وتُغدقُ على المتعلمين أيضاً معلومات فصيحة تبيّن الفارق بين الحشيش البقاعي اللبناني، والحشيش الأفغاني الفاخر، والفارق بين غارات طائرات أف 15 وأف 16 الإسرائيليتين، وتأثيرها المتباين على ثبات العمامات السود في لبنان والعراق وإيران.

ليس عدد ضحايا زلزال الذي فاق 42 ألف قتيل، من بينهم 6 آلاف سوري، هو أكثر ما يرعب السوريين. لديهم رعبهم الخاص، ولديهم ما يكفيهم من هزّات ارتدادية تطوّق بحكمةٍ كلّ صنوف الرعب الذي يعيشون، والذي تآمر العالم لإبقائهم محبوسين فيه. رعب التهجير وهزاته، رعب الاعتقال وهزاته، رعب المقابر الجماعية وهزاتها، رعب الهوية وهزاتها، رعب الجوع والبرد والعتمة وهزاتهم مجتمعين، الرعب من الغد، حين يصحون كل يوم غير مصدّقين كيف تتطابق نذالة العالم مع نذالة نظامهم الحاكم، كيف تتواطأ النذالة عليهم من كلّ صوب، وكيف عليهم تصديق كلّ هذا.                                    

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات