لقد تابع كثيرٌ منّا زيارة بشار الأسد إلى حلب بعد أربعة أيام على الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وشمال غرب سورية، ورأينا جميعاً الصورة الهزيلة التي ظهر بها الأسد كرئيس دولة قام بزيارة لمنطقة منكوبة في بلده الذي هو رئيسه، فكان يضحك فرحاً، ويوزّع الابتسامات هنا وهناك وكأنّه آتٍ للمشاركة في عرسٍ وطني في مناسبة ما.
ورأينا جميعاً عبر وسائل الإعلام كمّيّة السخرية التي قابل بها السوريون وغير السوريين هذه الزيارة معتبرين الأسد منفصلاً عن الواقع، وأن ظهوره الهزيل هذا يدلّ على أنه إنسان مريض؛ إذ من غير المنطقي أن يقوم مسؤول بمستوى رئيس دولة بالضحك وإظهار الفرح والبهجة، وهو يقوم بزيارة لمنطقة منكوبة من وطنه، بعضٌ من مواطنيه ما زالوا تحت الأنقاض، إمّا موتى وإمّا أحياء ينتظرون من يخرجهم من هذا الجحيم الذي هم فيه.
فالإنسان الطبيعي في هذه الحالة وفي هذا الموقف يظهر بمظهر الحزين المتجهّم الباكي مواساة لمن أُصيبوا بهذا المصاب الجلل، لا أن يظهر بمظهر المبتهج الفرح اللا مبالي.
ويبدو أنّ الدائرة المحيطة بالأسد من مستشارين وغيرهم أدركوا المطبّ الذي وقع به رئيسهم بعد ظهوره بهذا المظهر الذي أثار سخرية الكثيرين من سوريين وغير سوريين، فأشاروا عليه أن يظهر ظهوراً آخر عبر تسجيل مصوّر، يخاطب به الشعب خطاباً مسؤولاً رزيناً مكتوباً بلغة دقيقة ومحسوبة، فيمحو بذلك الصورة التي انعكست عنه إثر زيارته الأخيرة لحلب بعد الزلزال.
ومن تابع كلمة الأسد المسجّلة والتي كُتِبت بدقة عالية من قبل مختصّين سياسيّاً ولغويّاً، سيلاحظ أنه خاطب السوريين عموماً ولم يخصّ أحداً دون آخر، كما إنه لم يهاجم أحداً منهم، ويسِمْه بوسم الإرهاب، بل كان خطابه هادئاً حاول به أن يكون عقلانيّاً منطقيّاً ليقنع من يسمعه من السوريين أنه على قدر المسؤولية كرئيس للدولة، حتى إنه في سياق حديثه دعا إلى (توافق وطني منطلق من حوار واسع).
وهي جملةٌ غائمة عامّة لا تستطيع أن تستنتج منها شيئاً محدداً يقصده الأسد، فالحوار الواسع قد يُفهم منه أنه حوار مع المعارضة والثوّار وغيرهم من القوى المتقاسمة للأرض السورية الآن، وقد يُفهَم منه بذات الوقت أنه حوار بين مواطني المجتمع المتجانس الذي سعى لتشكيله منذ اندلاع الثورة عليه وعلى نظامه عام 2011م، وغيرهم من السوريين خارج حساباته، فهي جملة ملغومة لا تعرف هدفاً محدداً لها.
لكن لنحاولْ أن نكون إيجابيين، ونفهم المراد من عبارة التوافق الوطني المنطلق من حوار واسع، أنه يقصد المعنى الأول أي الحوار بين كل السوريين موالين ومعارضين وثائرين وسواهم، وهنا ألا يحقّ لنا أن نتساءل أين كان هذا الخطاب المنضبط وهذا المنطق الرزين وهذه العقلانية قبل اثنتي عشرة سنة، أي عندما خرج الشعب إلى الشارع وحطم جدار الخوف وطالب بحريته وكرامته؟!
إنّ أقلّ ما يقال إجابة على هذه الدعوة والحال كذلك، أنها جاءت متأخرة، ومتأخرة جداً، فبعد كلّ هذه الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب السوري قتلاً وتهجيراً وتدميراً لمدنه وبناه التحتية، أضف إلى ذلك مئات الآلاف من المعتقلين والمفقودين، لا يمكن أن تكون هذه الدعوة منتمية للواقع، بل هي محض خيال، وهي دعوة أُريد منها ذر الرماد في العيون وكسب مزيدٍ من الوقت.
إنّ أيّ حوار يمكن أن يكون بين السوريين الأعداء إن صح التعبير، لا يبدأ إلا تحت سقف حكومة انتقالية مشكّلة نتيجة للقرارات الدولية ومجلس الأمن، بحيث تجمع هذه الحكومة كلّ السوريين على اختلافهم في مؤتمر وطني شامل ينتج عنه لجان مختصة بكل النواحي دستورية وسواها، لنصل من خلالها إلى برّ الأمان ونعيد بناء سورية الحديثة على أسس جديدة بعيدة عن الطائفية المقيتة التي كرّسها نظام الأسد الأب والابن معاً، دولة تقوم على المواطنة تحترم فينا الإنسان الذي ما شعرنا بقيمته نحن السوريين منذ اعتلاء عائلة الأسد السلطة في سبعينيات القرن الماضي.
التعليقات (2)