سوريا والسوريون، مناطق منكوبة، ممزقة جراء الحرب، بحثٌ عن أي طوق نجاة للهرب وإنقاذ ما تبقى من الحياة، فجاء القدر ليُجهز عليهم وعلى آمالهم، وكأن الموت ما شعر بتخمته وفتكه بالمدنيين بعد، وأيُّ عبرة من هذا الزلزال على السوريين كي يتلقوها، إن كانت مشاهد آثاره تشبه لحد بعيد نتائج القصف والصواريخ على الأبنية، ومن لم يمت تحت أنقاض منزله في الحرب، مات تحت أنقاض منزله بالزلزال وهو مُهجّر جراء الحرب.
السوريون على اختلاف مشاربهم من جرابلس والباب مروراً بعفرين وجندريس حتى إدلب وريفها، أصبحوا يُشبهون بعضهم البعض أكثر، عيونهم حمراء ملتهبة، وجوههم تعبة، يبحثون عن أنين لأحد من أفراد أسرتهم تحت الأنقاض، تائهين في أحيائهم ومدنهم التي يكسوها الركام، يشتركون في هدر المزيد من فرص المستقبل، وفقدان الأحبة وأفراد الأسر المنكوبة، وانتهى الاعتقاد أن البيوت هي مصدر الأمان والاستقرار والفرح، فتحولت إلى مقابر جماعية، لم تحمِ أحداً، ويشتركون أيضاً في فكرة واحدة: هل سيغادرون سوريا دون رجعة بعد أن حوّلت الحرب بلادهم إلى خراب؟، أم سيبقى التشبث بها رغم كل شيء؟
وتكاد سلة ديمستورا المتعلقة بإعادة الإعمار تتحول إلى ما يشبه النكتة السمجة بعد كل هذا الدمار، إن كان الزلزال هو الجديد والفريد من نوعه منذ مئات السنين، لكنه ليس بالمميز على حياة السوريين الذين تزلزلت حياتهم منذ 2011 ودون إيجاد مخرج لهم، فلا ذاكرة جمعية للسوريين سوى الموت بأشكاله المختلفة.
الزلزال لم يقتصر على هدم المباني وابتلاع عشرات الآلاف فحسب، بل زلزلت معها خطط السوريين وحياتهم، ورسخت لحقيقة هشاشة الإنسانية التي تشدقت بها المنظمات الدولية لعقود طوال، هي ذي تلك الإنسانية على المحك في أقصى درجات الاختبار الوجودي لها ولعمقها وأسباب وجودها.
تتصرف الدول وكأن لا وجود للشمال الغربي، بدءاً من جائحة كورونا مروراً بالكوليرا وحالياً بمأساة عشرات الآلاف من السوريين تحت ركام الزلزال، ويبدو أنها لن تكون الحلقة الأخيرة في سلسلة إهمال سحق المناعة النفسية للأهالي جراء تلك النكبات.
واذا كانت الكوارث الطبيعية تفوق قدرة البشر على مواجهتها، ولا قدرة على تفاديها، هكذا تقول لغة العواطف، لكن بلغة أهل المنطق والعلم، فإن تساؤلات جوهرية تقوم على النبش حول مستقبل المنكوبين، وضمان وصول المساعدات للمحتاجين، وآلية إنقاذ المتضررين، وماذا عن مشاريع التعافي المبكر التي عادة ما تأتي بعد وقوع الكوارث؟ لا موارد ولا عمل، ومن ادخر القليل من المال والذهب ابتلعه الزلزال، عادوا إلى الصفر لا مردود مالياً ولا مصروف ولا سكن ولا مدارس ولا عمل.
مساكين هم السوريون بعد عقود من الذكريات والعمل والتأسيس في سوريا حيث استقرارهم، حوّلتهم الصواريخ والحرب الى مهجّرين، وبعد أعوام على الاستقرار والعمل والتأسيس حوّلهم الزلزال إلى مُبعدين ومهجّرين من جديد مع إعادة فتح جراحهم التي لا تندمل أبداً، خاصة وأن دور السوريين في هذه الحياة خلال 12 عاماً اقتصر على الموت والهجرة والتعرض للتهجير.
السوريون لا يلعبون أدوار الضحية فهم الضحية نفسها، هم الفيلم والسيناريو والإخراج والتأليف، هم يمثلون نتائج قبح هذا العالم وصفاقته، السوريون نتاج ازدواجية المعايير، ولكن لمَ الغرابة والاستغراب من الإهمال الدولي للسوريين في محنتهم؟، أليست بلادهم تعيش الدمار والتشرد في السنوات العشر الفائتة؟، أليست سوريا المنكوبة اليوم هي نفسها المنكوبة منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، والمنكوبة منذ 50 عاماً جراء المراسيم والقرارات والتصرفات والعنجهيات؟.
إذا كان الزلزال أودى بحياة قرابة /5/ آلاف سوري وهجّر عشرات الآلاف، لكن سوريا فقدت الملايين ما بين جريح وشهيد ومغيّب ومهجّر وبلادٍ مدمّرة، مع ذلك بقي المجتمع الدولي مصراً على إغماض العين عن تلك المأساة منذ 2011، فهل يعتقد السوريون أن ذلك المجتمع سيتأثر بنتائج زلزالٍ مصدره الطبيعة.
غالب الظن أنه لن تكون سوريا والسوريون قبل الزلزال كما بعده، فثمة قضايا تكبر دائرتها، سواء عبر المشاهدات أو شهادات الناجين من الكارثة، خاصة أن شعور الخذلان من أغلب الدول العربية التي فضّلت إيصال المساعدات لمطارات حكومة أسد على الشمال الغربي كانت صدمة واضحة.
الجامعات في الدول الأوربية والعربية تُدرّس حقوق الإنسان والمساواة ومعايير الإنسانية، لكنهم خذلوا مناهجهم، وفرّقوا بين ضحية وأخرى، ساندوا تركيا حيث الدولة والمؤسسات والمراكز الطبية، والميزانية الضخمة، وتخاذلوا وأداروا ظهورهم لما حصل في جارتها سوريا.
وإذا كانت مناطق سيطرة حكومة أسد تخضع لاعتبارات سياسية وحساسيات دولية، فماذا عن شمالها الغربي حيث غياب كل شيء!، لا آليات ولا مراكز طبية ولا مساعدات ولا فرق إنقاذٍ كافية، وما علاقة السياسية بإنقاذ الأرواح؟، وإذا كانت الفاجعة في تركيا أكبر وتستدعي المساعدة الفورية والأهمية القصوى، فلماذا اقتصر الاهتمام بالسوريين، كمجرد أرقام على شاشات التلفزة يرتفع مؤشر الأرقام بين الحين والآخر ليشير إلى زيادة عدد المتوفين والجرحى.
وإذا استثنينا قطر ومؤسسة البارزاني الخيرية التي كانت أول جهة مدنيّة إغاثية تدخل الشمال الغربي، فإن الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي والدول العربية كلهم يجتمعون في خانة الجهات التي لم تمدّ يد العون للسوريين في مصابهم، وإن كانت الشعوب قد تعاطفت وتضامنت وقامت بحملات جمع المعونات والتبرعات لصالح السوريين المتضررين، لكن كل الصور والفيديوهات لم توقظ حمية تلك الدول التي كانت تقول دوماً إنها تتعاطف مع السوريين وتقف لجانبهم، فجاء الزلزال ليزلزل نفاقهم.
القاسم المشترك بين السوريين حالياً، سواء من يعيش في تركيا أو جميع المناطق المنكوبة والمتضررة من الزلزال، هو غياب فكرة ماذا سيفعلون؟، هل ينتظرون بضعة أيام لاتخاذ القرار؟، لكن أي قرار وهل من خياراتٍ أمامهم، وليس عبثاً من قال إن الذين ماتوا ارتاحوا، أما الباقون فهم المصابون وعديمو الحظ، خاصة أن حياتهم انتهت وهم على قيد تلك الحياة، أين سيذهبون، فلا أحد سيجد لهم الحلول، لا الحكومة السورية المؤقتة ولا المعارضة كلها، ربما لو فتح الاتحاد الأوروبي أبوابه أمامهم سيتحوّل الجميع بين ليلة وضحاها لطالبي لجوء؛ فلا شيء يقف أمام الضغط النفسي والخوف من تكرار الهزات خاصة مع الإعلام الأصفر المروّج لها.
التعليقات (0)