ليس لدى الصفيحة التكتونيّة العربية عينان لتبصر بهما طريقها وهي تنزلق شمالاً، وإلا لكانت امتنعت عن إقراض الصدع الشرقي للأناضول زلزالاً مرعباً لم يحدث مثيلٌ له منذ قرنين، ولم يكن ينتظره السوريون المنكوبون بقراءة ملحمة دمارهم مرتين في اليوم على الأقل. تفاجؤوا به مستيقظاً فوق نومهم، وقد جعل المنطقة ترتبك من دمار جديد، استباح ذهول المفاجأة، بل وعناصر تكوينها، وأعاد على الجميع تلاوة السيرة الموجعة التي يحفظها السوريون جيّداً عن انتشال الأجساد من بين أنقاض الأبنية وطيّاتها النائمة، ثم هبط الخراب فوق المكان، ليقول الرئيس التركي إن بلاده تواجه أكبر كارثة في تاريخها، وهو الخراب عينه الذي اتسعت مفاعيله جنوباً متجاوزاً إدلب، بالغاً الأحياء الشرقية لحلب، مروراً بحماة واللاذقية وطرطوس، فيصير إحصاء عدد من فارقوا الحياة جرّاءه أمراً مراوغاً للغاية، يقفز ألفاً بين الصباح والمساء، وربما سيتجاوز ذاك الرقم ضفاف الـ 20 ألفاً كما كانت منظمة الصحة العالمية تحسبه ضمن تقديراتها المتفائلة، يضاف إليهم قرابة 23 مليون متضرر في سوريا وتركيا على السواء.
زلزال يدعم نظام الإبادة
بعدما اجتمع متزعم النظام بوزرائه صبيحة يوم الزلزال، أحصى معهم أسماء المناطق السورية المنكوبة، واستثنى منها إدلب، ثم اختفى لأربعة أيام متواصلة من مشهد تناسل الدمار والموتى. لم يسمع منه أحدٌ أيَّ تصريح خلال الأيام الأولى الملاصقة للزلزال، ولم يلق الناس المنكوبون في المناطق المتصدعة سوى مزيد من انتظار مساعدات لا تأتيهم من نظام عقيم، يقاطعهُ وينبذهُ العالم أجمع.
فمؤسسات الإغاثة التابعة للنظام تستولي عليها أسماء الأسد مثل جمعية العرين، والأمانة السورية للتنمية، فلا تبرعات نقدية أو عينيّة يمكن تخصيصها للسوريين سواء كان مصدرها داخلياً أو خارجياً، وإلا ويجب أن تعبر من باب أعلى هرم السلطة، وهذا أحد قوانين عصابة الحكم وأحد مسلّماتها، والتي لا تستثني جورج وسّوف أو ساريا السواس أو بسام كوسا حين تبرّع الأول بمليار ونصف مليار ليرة، والثانية بمبلغ 140 مليون ليرة، والثالث بمبلغ 15 مليون ليرة حسب ما تناقلته صفحات التواصل الاجتماعي، ومثلها تبرعات كثيرة يجزمُ الفضاء الاجتماعي في سوريا بأن جزءها الأكبر سيسرقه النظام، ولن يصلهم إلا قلّة القلّة منها، حتى وهم يعيشون سيرة فنائهم الثانية، والطبيعة تتواطأ عليهم من تحتٍ ومن فوق، كما تواطأ عليهم هذا النظام في السابق من تحت ومن فوق أيضاً.
تقول فرق الخوذ البيضاء في شمال سوريا إن أكثر من 375 مبنى قد انهار كلياً، بالإضافة إلى أكثر من 1200 مبنى قد انهار انهياراً جزئياً، فيما تقول وسائل إعلام النظام الرسمية إن قرابة 300 ألف شخص في سوريا قد اضطروا لترك منازلهم بسبب الزلزال، لكن الأرقام لم تعد قادرةً على تصديق نفسها، لم تعد تبصر أمامها، ولم تعد كذلك كافيةً لتوصيف الكارثة أو إدانتها، وهي على الجانب السوري كارثةٌ مركبة، ومعقدة للغاية سواء في إدلب الخارجة عن سيطرة النظام، أو في مناطق سيطرة النظام نفسها، إذ لا تصل المساعدات الكافية إلى المنكوبين هناك، فيبدو الناس عاجزين عن الإتيان بفعلٍ يفوق ما فعلوه، والأرجح أن قَدَرَ السوريين الأبدي هو أن ينتشلوا موتهم بأنفسهم، وأن يحسنوا دفنه بأنفسهم أيضاً.
عودة الحديث عن الصفائح المندسّة!
سوريا لا تهتز على مقياس ريختر، وما حدث كان امتداداً لمعنى موتها السريريّ المُطبق، ولو أن الزلزال مسَّ مصالح نظامها الحاكم بسوء، لكان إعرابه "مؤامرةً تكتونيّة" تقودها الصفيحة القاريّة العربية في انزلاقها الأعمى شمالاً، فلا أعداد ضحايا الزلزال، ولا دماره الباذخ يعنيان زعيم النظام السوري بشيء، وهو الذي يحكمُ أكثر بلدٍ منكوب على وجه الأرض.
كما وأنه لم يخرج علينا منظّرو محور "الممانعة" ليبرهنوا لنا على صوابية نظرية "الصفائح المندسّة". لم يشرح لنا خالد العبود شيئاً عن "مربعات" اندساس الصفيحة العربية داخل صفيحة الأناضول، ولم تخبرنا بثينة شعبان عن التمويل الخارجي المشبوه لتلك "الصفائح المندسة".
خسرنا إذاً درساً في الرياضيات، ودرساً آخر في الأخلاق والمنطق من أبواقِ نظام فاقد للأخلاق والمنطق. وحدها لونا الشبل مستشارة زعيم النظام هي التي أطلّت، وأسمعتنا صوتها في زمن نكبة السوريين الجديد، نفت على حسابها في فيس بوك أن يكون نظامها قد طلب أيّ عونٍ أو مساعدة من الحكومة الإسرائيلية، كما صرّح نتنياهو، وقد أبدى المسكين استعداد حكومته لإرسال مساعدات عاجلة إلى حليفه في الخفاء، فالنظام السوري لا يعرف حدوداً ليقف عندها قبحهُ الموروث منذ نصف قرن، وهو يستطيع توثيق ذلك بكلّ يسرٍ وبساطة، وتعجز زلازل الأرض مجتمعةً عن مجاراته في كيل كلّ هذا الغلّ والكره والاحتقار للشعب السوريّ المسكين، وسيبقى "ريختر" يتعذّب في قبره، لأن مقياسه لشدّة الزلازل يبدو عاجزاً عن قراء مؤشر الهزّة الأرضية الحقيقية التي أطاحت بسوريا منذ نصف قرن، ولا يزال العالم يسمع ارتداداتها حتى وقتنا الراهن.
التعليقات (3)