زلزال واستغلال

زلزال واستغلال

زائر الفجر المدمر الذي جاء بأمر ربه استقبله السوريون والأتراك بمزيد من الصبر والرضا والتسليم؛ زلزال هو الأقوى منذ عقود، ضرب المنطقة التي تقع جنوب تركيا وشمال سوريا وكأنه يقول: إن هذه المنطقة مصيرها واحد، وهذين الشعبين مصيرهما مشترك كما أصبح وجعهما مشترك.

رسائل كثيرة حملها الزلزال بما خلفه من الكوارث في المنطقة؛ ربما كان من أهمها تكرار اختلاط الدم السوري التركي كما حصل سابقاً في حرب شناق قلعة المشهورة.

زلزال تخطّت أضراره قدرة دولة متقدمة مثل تركيا فكيف بشمال سوري محرر يحاول أن يثبت نفسه وسط كل ما يحيط به من مؤامرات خارجية وداخلية لإفشاله وهدم مشروعه.

أهوال عاشها قاطنوا منطقة الزلزال التي أصبحت منكوبة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ تقبّلوها وتقبّلها كل العالم لأنها أمر إلهي خارج قدرة وتدبير البشر.. أو لنقل تقبّلها أغلب العالم وليس كله؛ لأننا نرى أصواتاً تعلو شماتةً بالدولة التركية لتمرر حقدها فوق الضحايا والمشردين وصور المفقودين وأنين العالقين تحت الأنقاض.

تخرج علينا صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية برسم كاريكاتير يظهر جانباً من الدمار الذي خلفه الزلزال موسوماً بعبارة: "لا حاجة حتى لإرسال دبابة".
حقد لم تستطع الإنسانية منعه من الخروج وشنِّ هجوم غير مبرر، وإساءة ربما أصبحت معتادة من مثل هؤلاء، وبما أنّ الدولة الفرنسية دولة الحريات فنحن بالتأكيد نملك حرية أن نقول: الدولة الفرنسية دولة لا تتمتع حتى بأخلاقيات العداوة.

كل هذه التصرفات ومثلها من المتسلقين الذين يحاولون حصد شهرة من خلال ما يحدث بأساليب مختلفة كبث الفيديوهات أو المنشورات أو تناقل أخبار غير موثوقة -وهذه وحدها جريمة بشعة- من شأنها أن تثير الرعب فقط لأجل الترند دون أدنى شعور بالمسؤولية؛ كل ذلك يمكن قبوله أو محاولة استيعابه، أما ما قام به النظام السوري وقوات سوريا الديمقراطية فهذا ما لا يمكن استيعابه.

فجرٌ دامٍ وأخبار متسارعة عن المناطق المنكوبة وأعداد الضحايا التي تتزايد، وقلبك يعتصره الألم وأنت تتابع على شاشة هاتفك المصائب التي حلَّت بالناس وتحاول الاطمئنان على أقاربك وأصدقائك من سكان محيط الزلزال؛ بين ذلك كله يمر أمام عينيك خبر ربما هو الأغرب على الإطلاق: النظام السوري وقسد يقصفان مدينة مارع.

خبر يجعلك تتساءل عن الطينة التي خُلق منها هؤلاء، وعن حجم الإجرام الذي تحمله تصرفاتهم، وعن حجم النذالة التي يبرعون في التعبير عنها بأشكال وطرق ربما لا تخطر على بال الشياطين أنفسهم، ثم يخرج بعض من ينكر على النقطة التركية التي ردت على القصف بمثله.

إنّ مثل هذا التصرف يحمل في طياته الكثير من الإشارات والرسائل والمعاني؛ الضعيف وحده من يستغل الفرص والظروف ولا يستطيع صنعها، وهذا تماماً ما يُسمى بالعجز المطلق؛ حين يستغل كلٌّ من النظام وقسد كارثة الزلزال ليرسلا قذائف لن تكون أشد فتكاً بالناس من الزلزال، فهذا يصور حجم الإفلاس الذي بات يعيشه كل منهما، وهذا الإفلاس على كل الأصعدة سياسياً وعسكرياً وحتى اقتصادياً؛ حيث سارعت مؤسسات الدولة في سوريا -إن صحَّ تسميتها مؤسسات دولة– إلى تخصيص أرقام وحسابات لاستقبال التبرعات المادية إغاثةً لمتضرري الزلزال قبل حتى أن يعرفوا حجم الأضرار بالنزول إلى مواقع الأضرار ومعاينتها كما تفعل كل الدول التي تحترم نفسها وتحترم أرضها وتحترم شعبها.

حين يسارع نظام حكم إلى الاستفادة من كارثة طبيعية فهو نظام حكم مفلس، وحين يعجر عن إعطاء أقل التطمينات لشعبه ولو بالتصريحات والخطابات فهو نظام حكم مفلس، وحين يصرخ (ساعدوني) مستغيثاً الصناديق الدولية قبل أن يعلم حجم الدمار ومقدار الحاجة فهو نظام حكم مفلس، والأكثر ألماً من هذا كله حين يفرض على المواطنين الراغبين بالمساعدة أو التبرع بالدم أو الدخول إلى المشافي للاطمئنان على ذويهم أو التوجه إلى المناطق المنكوبة لمساندة فرق الإنقاذ -إن وُجدت- أن يحصلوا على تصاريح أمنية من فروع الإجرام التابعة له؛ حين يحصل ذلك فهذا يعني قمة الإفلاس ليس السياسي والاقتصادي والعسكري بل والأخلاقي والإنساني أيضاً، وهذا ما سبَّبَ ويُسبب تزايد النقمة عليه حتى من الموالين له يوماً بعد يوم.

لم تقف تصرفات النظام عند هذا الحد من استغلال الكارثة؛ فلقد تجاوز ذلك كله إلى نشر وسم (هاشتاغ) عبر مؤيديه والعميان من المشاهير أو الفنانين مفاده (ارفعوا العقوبات عن سوريا) في محاولة جديدة بائسة لإنقاذ وتعويم نظام الإجرام والنهب والسرقة رغم التصريحات الرسمية من الجانب الأمريكي ومن الخبراء والمحللين التي بيّنت للعالم أن العقوبات المفروضة على النظام السوري بفعل جرائمه لا تشمل المساعدات الإنسانية، وأنّ المساعدات الإنسانية تصل عن طريق المعابر المخصصة لذلك وبشكل طبيعي وميسر.

حتى الفن في سوريا يتاجر بالإنسانية ليظهر عارياً منها أمام العالم، دعوات من فنانين ومؤثري سوشال ميديا نشاهدها اليوم هنا وهناك تناشد وتطالب بالخطاب السوري السوري، وتنادي بوحدة المصير ووحدة الدم ووحدة المصيبة وطي صفحة الماضي، وكل ذلك بأداء تمثيلي محترف تملؤه الحسرة على مصائر الناس؛ هذه الحسرة التي لم نشعر بها وبراميل النظام المتفجرة تفعل بالسوري الأعزل مثل ما فعل الزلزال الآن، حسرة لم نشعر بها ودبابات الجيش السوري تدهس أحلام السوريين بالعيش الكريم، حسرة لم نشعر بها وآلة القتل في المعتقلات تفرم يومياً المئات من السورين الذين لا ذنب لهم سوى المطالبة بأدنى حقوق الإنسان.. الحرية.

لا أدري إذا كانت رسائل الزلزال ستصل كلها إلى من يجب أن تصل إليهم، كل ما أعرفه أنها رسائل واضحة.. وواضحة جداً. 

 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات