"مارد الجوع"

"مارد الجوع"

كثيرة هي الطرق التي حاول فيها السوريون تحقيق ما أرادوه منذ الصيحة الأولى التي فجّرتها حناجر الصغار قبل الكبار قبل اثني عشر عاماً؛ والتي ما زالت جدران الأبنية في كل أنحاء سوريا شاهدة على تفاصيل ما جرى هناك بعدها، أو ما بقي صامداً من جدران الحلم في سوريا (الشعب يريد إسقاط النظام)

أغصان الزيتون والصدور العارية، التخطيط والتنظيم والتنسيق، الكفاح المسلّح رداً على آلة البارود التي صعّد من خلالها النظام ليقوم بما يعرفه ويبرع فيه منذ سبعينيات القرن الماضي (القمع) لإخماد كل شرارة تنادي بالنور المطلق، تشكيل الهيئات والمجالس والحكومات، تشكيل الجيوش، الجلوس على طاولات العالم الرسمية في محافل مختلفة، ثم العمل القانوني من خلال تقديم الأدلة والبراهين على جرائم النظام السوري ضد الإنسانية في سوريا بدءاً بالهجوم الكيماوي وليس انتهاءً بصور قيصر، وعقوبات دولية..  وغيرها وغيرها.

كل ذلك لم يجعل النظام يحسّ بالخوف أو يرتعد مدركاً خطورة ما يحيط به ويقترب من إسقاطه الوشيك، لكنّ سلاحاً جديداً بدأ يظهر مؤخراً أرعب النظام حتى بات مدركاً لفكرة حتمية السقوط؛ سلاحٌ لم يستخدمه السوريون من قبل، ولم يستخدموه الآن أيضاً، بل فُرِض عليهم؛ فرضته سنوات الصراع وفاتورة النار التي شاركت بإذكائها إيران وروسيا على وجه الخصوص؛ إنه سلاح الجوع وقوته وسطوته..

كان النظام يعتمد على جناحي تحليقه في سحق ثورة السوريين:

- الضرب بيد من حديد وإحراق المناطق الخارجة عن سيطرته، وتدمير البنية التحتية فيها؛ لمعاقبتها والانتقام منها، ولإخافة المناطق التي لم تخرج عن سيطرته بعد.

- تأمين الأمان – ولو كان مصطنعاً – ومتطلبات الحياة الأساسية ضمن المناطق الواقعة تحت سيطرته.

النظام لم ينجح إطلاقاً فيما فكّر فيه، وكل ما جناه هو كسب المزيد من الوقت فقط؛ لأن المناطق الخارجة عن سيطرته لم تثنها ضرباته التي كانت تشتد في كل مرة؛ بل زادت حدة مقاومتها وتمسكها بما خرجت مطالبة به، واستطاعت بعض المناطق أن تضرب مثالاً حقيقياً في التنظيم والإدارة وإنعاش الحياة المدنيّة في قلب ظروف الحرب ومن بين أكوام الدمار؛ أما المناطق التي كانت وما زالت تحت سيطرته، فهو لم يستطع توفير كل ما زعمه بسبب التفلّت الأمني وظهور الدويلات التي وضعت كل منها قانونهاً الخاص في النهب والسلب والإرهاب الممنهج ومارسته على أصحاب الأموال وغيرهم، مما أدى إلى الهجرة من تلك المناطق لمن نجا من محاولات الخطف والابتزاز المستمرة حتى الآن، وهذا يعني هجرة الأموال من سوريا.

كل ما سبق إضافة للسلب الذي اعتاد النظام ممارسته في مؤسسات الدولة لعقود، والخلاف المالي ضمن الدائرة الضيقة للنظام، والذي ترجمته وفضحته تصريحات رامي مخلوف عقب محاولة أسماء الأسد سحب البساط المالي من تحته وتحطيم إمبراطوريته القديمة أرهق دورة المال في سوريا فبدأت بانهيار الليرة السورية، ثم استبدالها بغيرها في بعض المناطق خاصةً الخارجة عن سيطرة النظام، وبالتالي أدى إلى انهيار البنية التحتية في مساحة كبيرة من الخريطة السورية، ولم تعد أبسط مقومات الحياة موجودة، وظهرت إمبراطوريات صغيرة جديدة تمثلت باحتكار بعض المواد الأساسية في مناطق حكم النظام الذي ظهر بصورة الضعف الحقيقية، ثم حاول استدراك فضيحته باستخدام البطاقات الغبية التي أسماها (الذكية) ليدخل المواطن في دوّامة الحصحصة غير المتكافئة، والتي لم تصمد كثيراً، فعمد إلى الحل الدرامي من خلال إظهار رأس الحكم والفساد (بشار الأسد) بصورة المواطن البسيط الذي يقود سيارته بنفسه ويأكل الشاورما في المطاعم الشعبية وينتظر الكهرباء والإنترنت – كباقي المواطنين – لمعرفة نتيجة امتحانات ابنته.

سيناريو ركيك وحبكة مبتذلة وإخراج ضعيف أدى إلى توسيع نطاق موجة السخط على النظام وممارساته لتجتاح هذه الموجة سكان الساحل من الطائفة العلوية التي كان النظام يراهن عليها؛ نقمة السوريين من كل الأطياف على النظام وما أوصل البلاد والعباد إليه نتيجة طبيعية ومنطقية كان لابد من الوصول إليها.

وهنا ألقى النظام بورقة جديدة تمسّك بها جعلته يظن أنها المفتاح للخروج من كل ما يحصل، ألا وهي تعويم النظام وإعادة فتح القنوات والطرق المتعثّرة بينه وبين دول الجوار والعالم.

خطوة أصابت الكثيرين من معارضي النظام بالإحباط، وبدأ اليأس يتسرب إليهم بعد الانتعاش الظاهري الذي بدا على وجه النظام بعد تسارع اللقاءات وتعالي الأصوات التي تنادي بإعادة العلاقات مع مؤسسات النظام وأنها الحل الوحيد لإنهاء مشاكل الملف السوري وإعادة الاستقرار إلى سوريا والمنطقة.

لكن نعود لنقول بأن سلاح الجوع ظهر ليضرب كل تلك المساعي عرض الحائط؛ في مناطق سيطرة النظام كان الناس ينقسمون إلى قسمين: قسم يملك المال وقسم لا يملكه، وكلاهما عضّه الجوع بسبب انحسار موارد الحياة، فبدأ أصحاب المال بمغادرة سوريا لقدرتهم على ذلك حتى ضاق نطاق التوزع المالي لينحصر بين دائرة المتنفذين حول النظام وهم قلة قليلة لا يستطيعون العيش خارج سوريا رغم ثرائهم بسبب أوضاعهم السياسية وارتباطهم الإجرامي ومصيرهم المستقبلي بالنظام، وأصبح السواد العام من القاطنين تحت سيطرة النظام من الطبقة المسحوقة مالياً؛ الذين لا يملكون خيار المغادرة، ولم تعد تتوفر بين أيديهم أدنى مقومات الحياة، وهؤلاء هم من يخشاهم النظام على وجه التحديد.

النظام اتّهم سكان المناطق الخارجة عن سيطرته بالعمالة والارتزاق وبيع الوطن بحفنة من الدولارات، وراهن على الذين اختاروا أو أجبرتهم الظروف على البقاء في مناطق حكمه الهش؛ فإن ثار هؤلاء عليه – وقد بدؤوا – بسبب الجوع الذي أحاط بهم وسيطر على مشاعرهم، بماذا يستطيع أن يتّهمهم النظام؟؟؟ 

هل سيتّهمهم بالتمرّد لأجل لقمة العيش باعتبار الجوع جريمة محرمة دولياً؟؟؟

يستطيع الإنسان التأقلم من الألم والخوف وربما اليأس، لكنه حين يجوع يخرج عن إنسانيته وتتحكم فيه غريزة البقاء ويتحوّل إلى وحش كاسر لا يمكن إيقافه، لا لشيء، فقط لأنه لم يعد عنده ما يخسره، والذي لا يملك ما يخسره لا يعرف الحدود أو الخطوط الحمراء.

الذي لم تستطع الثورة تحقيقه على مرّ اثنَي عشر عاماً بكل مؤسساتها وأشكالها ربما يقوم بتحقيقه الجوع، وهو ذاته السلاح الذي لم يحسب النظام حسابه، وهو ذاته السرطان الذي سيأكل النظام من الداخل حتى يسقط كما تسقط إمبراطورية من ورق، وربما يكون المارد الذي سيحقق آمال السوريين الذين خنقهم قمقم النظام لعقود مريرة... أقول ربما.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات