"في غيابة الجبّ".. القاسم المشترك بين محنة يوسف النبي ومحنة السوري الثائر

"في غيابة الجبّ".. القاسم المشترك بين محنة يوسف النبي ومحنة السوري الثائر

إن المتتبّع لمسيرة الشعر العربي منذ عصره الأوّل، سيلاحظ بلا شكّ أنّه فنّ تميّز به الرجل العربي دون المرأة العربية، لكنّ ذلك لا يعني أن التاريخ الأدبي لم يخلّد أسماء نساء عربيّات شاعرات قطعْن في هذا الفن أشواطاً كبيرة نافسن به الشعراء الرجال، ولعلّ الشاعرة الخنساء رضي الله عنها من أبرزهنّ في العصر القديم، فهي شاعرة مخضرمة عاصرت الجاهلية والإسلام، وقصّتها معروفة للقاصي والداني، من رثائها لأخيها صخر في الجاهلية رثاءً يبكي الصخر، إلى رضاها وتسليمها أمرها لله باستشهاد أولادها الأربعة في معركة القادسية عندما قالت: "الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم، وإني أسأل الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".

ولعلّه لم تخلُ مرحلة تاريخية من تاريخ الشعر العربي من أسماء شاعراتٍ أثبتنَ نبوغهنّ في هذا الفن، فهنّ كثيرات، ولا يتّسع المقام لذكر أسماء بعضهنّ.

ولعلّ العصر الحديث هو من أكثر عصور الشعر الذي حققت فيه المرأة الشاعرة حضوراً ندّياً للرجل على عرش الشعر، فكان لها دور بارز في نهضته وتطوّره، وقد سجّل تاريخ الشعر العربي المعاصر أسماء كثيرة وكبيرة، كانت أقدامهنّ راسخة في ساحات الشعر والبيان. 

ولعلّ التطوّر التكنولوجي وما رافقه من سهولة التواصل والوصول إلى الآخر حتى لو كان في آخر الدنيا، قد ساعد كثيراً في ذلك، بل كان له الدور الأبرز في معرفتنا لأسماء كثيرة، لم نكن لنعرفها لولا هذه الوسائل، وأبرزها منصة فيس بوك.

وإنني منذ زمن وأنا أتابع على هذه المنصة بعضاً من أخواتنا الشواعر، ولفتني عدد من الأسماء، كان من أبرزها الشاعرة صفية الدغيم؛ إذ كنت أرى في قصائدها ديباجة البدوي المستقاة من ديباجة ورونق الشعر العباسي، حتى وقع ديوانها "في غيابة الجب" بين يدي ولو بنسخة الكترونية، فقرأته، وكلما توغّلت زادت قناعتي أني أمام شاعرة من الطراز الرفيع، شاعرة امتلكت ناصية الشعر، فطوّعته بيدي صائغٍ ماهر لا يُخرج من بين يديه إلا ما هو مُبهر.

ولعلّ أوّل ما يلفت النظر في هذا الديوان هو عنوانه (في غيابة الجب)، فهو يسوقك مباشرة إلى غيابة جبّ يوسف النبي عليه السلام، وكأن الشاعرة تريد أن تقول إن ما حدث لها ولكل السوريين الأحرار يشبه في أبعاده ما حدث ليوسف عليه السلام، فإخوة يوسف رموه في غيابة الجبّ ليتخلّصوا منه بدافع الحسد، ولنا نحن – السوريين - إخوة لنا في الوطن رمونا في غيابة الجبّ (الغربة والتهجير القسري)، ليس بدافع الحسد هنا، بل بدافع حبّ السلطة والتسلّط، فإما أن نحكمكم، وإما أن نسلبكم أرواحكم قتلاً وتهجيراً، فتعكس الشاعرة صفية الدغيم في ديوانها "في غيابة الجب" مأساة شعبها ووطنها المنكوب، فهي تحمله على ظهرها أينما ذهبت وأينما حلّت في غربتها القسرية التي أجبرها عليها الطغاة المجرمون:

عزيزٌ علــــى الأطيــار تركُ ديارها

ولكنها خـــــوف الصقيع تهــــــاجرُ

أيـــا وطناً عاتبت مـــــا كنت حافظاً

لـــودٍّ ولا قربـــى ولا أنت عــــــاذرُ

حنانيك لا تحـــــص الجـــــراح فإننا

ذُبِحنا، أبعد الذبح تُحصى الخسائرُ؟!

ولا تجد الشاعرة صفية الدغيم غير العتاب لتوجّهه إلى بلدها وقرة عينها سورية أو الشّام، إذ جارت على أبنائها، فحبُّ الوطن مغموس بدمها، وهو الذي علّمها الحب والإحسان والشغف، فأينما ذهبت وتوجّهت وابتعدت، فهو يعيش معها، بل يسكن في داخلها:

علّمتِنا الحبّ والإحسان والشغفا

فكيف جرتِ علـــى أبنائِكِ الضّعفا

حتى تناءوا وما خلى الزمانُ لهم

إلا المــدى ملجــأً والبـردَ ملتحفا

إن كان شوقي إلى لقياكِ يا بلدي

ذنباً فلا تغفري للقلب مــا اقترفا

ولعلّ أبرز ما يلاحظه القارئ أو المتابع لشعراء الثورة السورية العظيمة، هو شغفهم بالشام، إذا ما أردنا أن نفهم من هذا الاسم مدينة دمشق، فهذه المدينة تشكّل للسوري عموماً البعد التاريخي للمجد العربي الغابر، فهي عاصمة دولة بني أمية، التي توسّعت بها الدولة الإسلامية توسّعاً كبيراً حتى وصلت إلى جنوب فرنسا في أوربا غرباً، وإلى أطراف الصين شرقاً، فهذه الدولة كانت ذات طابع عربي لاعتمادها على العنصر العربي في الوزارة وقيادة الجيوش، على خلاف ما صار لاحقاً في دولة بني العباس، إذ تم إقصاء العنصر العربي وتقديم الفارسي ثم التركي لاحقاً، وكأنّ شاعر الثورة السورية بمخاطبته للشام وشغفه بها يريد استحضار ما تمثّله هذه المدينة في مخيال الإنسان العربي والسوري بالخصوص من مجدٍ وسؤدد، حيث كانت تحكم العالم القديم، وإليها تشخص أبصار ملوك ذلك الزمان:

يا شامُ صحتُ بأعلى الصوت ملء دمي

لا تتركيني، ومــــا ألفيتُ رجــــعَ صدى

يا شـــــامُ إن قلتُ إنـــــــي متعبٌ فثقي

فيمـــا أقــــــول فإنــــــــــي أحمل البلدا

يا شـــــام يا أجمل الأوطان فــي نظري

لا تجمعي فـــــي عيوني الكحل والرمدا

قــــد يبرأ الجرحُ لكن مــــــا تقول بمن؟

من جرحه ينزف الأحشــــــــــاء والكبدا

إنّ القهر المر الذي عاشه السوريون خلال الخمسين سنة الماضية من حكم آل الأسد، يثبت بلا أدنى شكّ وضاعة هذه العائلة، فإن الخسة والنذالة مرتبطة عبر الزمن بمجهولي النسب وأولاد الشوارع، وقلما تجد هذه الصفات في إنسان نشأ ضمن بيئة طبيعية، فما ارتكبه الأسد الأب ومن بعده الابن بحق السوريين كشعب متحضّر كان في الخمسينات من القرن الماضي مثلاً أعلى لشعوب المنطقة في التطوّر والمدنيّة، أضف إلى ذلك ما فعله لسورية الدولة، يجعل المراقب والمطّلع على وضع سورية والسوريين يتعجّب من تلك العجينة التي جُبِلت منها هذه الأنفس المريضة التي لا تعرف في قاموسها سوى مفردة الانتقام، فتلخّص شاعرتنا صفيّة الدغيم سنين القهر هذه بقولها:

خمسون عاماً ومنّا مـــــــــن ملامحنا

من عيشنا المرّ ظفر القهر مـــا انسلّا

خمسون عاماً ســـــهام الغدر ما فتِئتْ

تصيبُ موسـى وتُخطي الكفرَ والعجْلا

لا فلكَ لا نوح لا شـــــــــطآن تعصمنا

ووحده الرّعبُ خاض البحر مــا ابتلّا

تدرون ما القهرُ؟ أن يعلو الطغاة هنا

ولا يُقال لهم فـــــــــــــي وجههم كلّا

ولا يخلو ديوان "في غيابة الجب" من بعض القصائد الوجدانية، التي بثّت من خلالها شاعرتنا صفيّة الدغيم مشاعرها الصادقة تجاه حبيبها الذي يظهر لنا شخصه من خلال إهدائها الديوان إلى زوجها، فهو رفيق دربها القديم الجديد، وهو سندها وسكنها معاً، وهو بعضها وكلُّها، وما أجملها من مشاعر عندما يغلفها العفاف بثوبٍ من سندسٍ وإستبرق:

فدتْكَ روحـــي ومـــــــا تلقى وما تجدُ

وأعينٌ شـــــفّها مـــــــــن بعدك الرّمدُ

لو لم تكن لي سوى نفسٍ تموت هوىً

لصحتُ مـــــــن أين يأتيني لهــا المددُ

فإن تأخّـــــر عني رحـــتُ أشــــطرها

حبّاً لتُبعَثَ منهـــــــا أنفــــــــــسٌ جددُ

ولعلّ من أبرز ما يجده القارئ في تلافيف ديوان "في غيابة الجب" هو النفس الصوفي، وهنا لا أدّعي أن شاعرتنا الدغيم شاعرة صوفية، بل ما قصدته وما أرمي إليه أن لديها مؤثراتٍ صوفيةً، أو هي متأثرة بالأدب الصوفي، فحين تخاطب المحبوب نجدها تتلاشى فيه، فكأنّهما جسدان في روحٍ واحدة وقلبٍ واحد، وإذا ما فسّرنا التلاشي بالمحبوب هو العدم للذات أمام سلطان المحبوب، فإن ذلك يذكرنا بقول ستيفان مالارميه: "لقد اكتشفت الجمال بعدما اكتشفت العدم" ويقول أيضاً: "الإبداع أن نموت قليلاً أن نتذوّق المعنى في ما وراء رتبة المعقول، مثل صوفي نمطي".

تقول صفية الدغيم:

كنّا معاً .. والله مــــــا فارقتَني

حتى ولو كنّا علـــــــــى دربينِ

نبكي ســويّاً والدموع تحار هل

ســــــــبقت لعينكَ أوّلاً أم عيني

ونحار كيف يظلُّ قلبٌ واحــــــدٌ

رغـــم البعاد يعيش في صدرينِ

فــــإذا أضعتكَ ضعتُ حتّى أنني

إن صحتُ أينكَ كنتُ أقصد أيني

إنّ توق الشاعر إلى العليان هو شعورٌ عامّ عند كلّ الشعراء الحقيقيين، فرغبة الشاعر في التحرر من سجن الجسد المادي والانطلاق إلى فضاءات الروح والتحليق فيها بأجنحة الخيال، هي غاية وهدف كلّ شاعر عظيم تتوق نفسه إلى جعل العالم في قبضته يشكّله كيف يشاء، فالنور الذي يبزغ من تلافيف نفسك الجوّانيّة هو الذي يوصلك إلى هذه اللحظة من السمو .. يقول فاوست لتلميذه فاغنر في المسرحية المشهورة للكاتب الألماني يوهان فولفغانغ فون غوتة: "ما من إنعاش حقيقي يمكن أن يسترجعك، خلا ما يبزغ تلقائياً من نفسك الخاصة"

تقول صفية الدغيم:

عودي فما فــــــــــي نعيم الحبِّ أجمل من

تفلّتِ القلب مــــــــــــــن فرض الوصاياتِ

لنفثِ ســـــــــــــــــحرك يا فيحاء في دمنا

طغيانُ يوســــــــــــــف في قلب الزليخاتِ

عودي فلا شيء يرضي الروح إن عشقتْ

إلا العروج إلــــى أعلـــــــــــــى السماواتِ

ولعلي لا أجانب الصواب إذا ما ادّعيت أنّ ركون صفية الدغيم إلى التراث لاستلهامه في إبراز أفكارها وعرضها للقارئ، إنّما يتركّز على الإشارة اللماحة لا إلى التصريح، وهو الإتيان بالعبارة التراثية إن كان آية أو مثلاً، وإقحامه ضمن جمل النّص، ولعلّ ذلك يعيدني إلى بدوي الجبل الذي لاحظت عنده الملاحظة نفسها، فانظرْ ماذا يقول بدوي مخاطباً حبيبته:

وسّدتُك اليمنى لعلّي في غدٍ

أردُ الحساب ووجنتاك كتابي

وليس من العسير على القارئ الحصيف أن يستدلّ إلى ما أشار إليه البدوي وما استلهمه من آي الذكر الحكيم من قوله تعالى في سورة الحاقة آية19 "فأما من أُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرؤوا كتابيه" في تصوير حبّه لمحبوبته الذي بلغ مبلغاً لا يصله إلا الملهمون الوالهون من العشاق، فهو يريد أن يأخذ كتابه يوم القيامة بيمينه، نعم ولكن هذا الكتاب هو وجنتا حبيبته، لذلك جعلها تتوسّد ذراعه الأيمن.

ولنعد إلى شاعرتنا الدغيم ولننظر إلى قولها:

لا تلعنوا الريح إن أمضت بكم أمرا

أحـــــرى بمجدافكم أن يفهم البحرا

لا يبلغ المجد إلا مــــن يحاولُــــــه

لو ما رموا دلوهم ما عاد بالبشرى

لنلاحظ كيف أخذتنا شاعرتنا دون تكلّف إلى قصة يوسف والسيارة الذين استخرجوه من الجب في قوله تعالى في سورة يوسف آية19: "وجاءت سيارةٌ فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه، قال يا بشرى هذا غلام"، فاستطاعت الشاعرة بالإشارة اللماحة إلى الآية الكريمة لتأخذها برهاناً على ضرورة العمل والجد للحصول على نتيجة مرضية، فالخطاب موجّه إلى من يضعون اللوم على الظروف، ولا يجدّون في تحقيق أحلامهم، فالذي يريد أن يحقق المجد عليه أن يسعى ويدلي بدلوه، فسوف يأتيه بالبشرى يوماً ما.

وأخيراً لا يسعني في هذه العجالة إلا أن أقول إنّ مقالة صغيرة بهذا الحجم لا تستطيع أن تلمّ بكل جوانب الديوان الكثيرة، لكنّي حاولت مجتهداً أن أمر على أبرزها وأشير إليه مستشهداً بما قالته شاعرتنا الحرة صفية الدغيم في ديوانها "في غيابة الجب"، ولعل القارئ الكريم يرى غير ما أرى أو يضيف إليه إذا ما قرأه واطلع عليه، لكننا باعتقادي لن نختلف على أننا أمام شاعرة فذة حرة حملت لواء الثورة السورية العظيمة على كتفها، ولوّحت به عالياً بأحرف من نور تخلّد تضحيات هذا الشعب العظيم في ثورته العظيمة.   

قراءة في ديوان "في غيابة الجبّ" 

للشاعرة السورية صفية الدغيم

التعليقات (1)

    Asyrian

    ·منذ سنة شهرين
    لا اعتقد أن حتى يوسف عانى واحد بالمليون مما عاناه الشعب السوري
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات